طقوس للموت  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

قامت وهي تتسلل علي أطراف أصابعها حتى لا تزعج نوم أبنائها الصغار..دخلت إلي حجرة مكتب زوجها.. حملت كتاباً بين يديها وراحت تقرأ.. فجأة استرعى انتباهها " أجندة " صغيرة لزوجها كانت مختفية وراء أحد الكتب.. أخذتها لمحة فضول لمعرفته ما بداخلها .. مدت يدها وأمسكتها بين أصابعها وراحت تقلب أوراقها ثم توقفت علي عنوان غريب جذبها . وبدأت تقرأ

" طقوس للموت"


في طفولتي كان أبى يصحبني معه دائماً إلي تلك الليالي المفعمة بالحركة والصخب ، ولكنه كان صخباً عنيفاً مزعجاً أخذ من طفولتي براءتها الأولى

. كانت ليالي أبى كلها عزاء فهو كمتعهد لإجراءات الدفن – يعتبر صاحب باع طويل في نقل الموتى وتغسليهم.

كنت أذهب معه وفي قلبي فرح لا أعرف كنهه؛ فأنا من كثرة ترددي علي الجنازات ،أصبحت أعشق رائحة الموت .. أعشق طقوس الموت الخاصة ، فعندما يبدأ النواح ولطم الخدود وشق الثياب كنت أزداد طرباً ، كان ما يجذبني أكثر هو شق النساء لثيابهن فتظهر صدورهن عارية أمامي وأنا اختلس النظر وأزيد التحديق ،حتى أظن أن عيني قد خرجتا من مقتليهما .. دائماً أقيم في حجرة العزاء المخصصة للسيدات.. تدخل النساء وهن يحملن صوان كبيرة محملة بالأرز واللحم كعادة الفلاحين الدائمة في الحزن والفرح. لم أتذوق أبداً لحم العزاء .. هناك هاجس بداخلي أنها لحم الميت نفسه .. طفلاً عابثاً كنت.. الكثير من النساء اللاتي حضرت جنازات أزواجهن تزوجن مرة ثانية وذهبت لأفراحهن لكن الأفراح لم تكن تجذبني ولا يشغلني تذوق الشربات ولقد كان طعم القهوة السادة هو المفضل لي . أسمع عبارات الثناء والامتنان وذكر محاسن الميت وأتلذذ بحديث النسوة حولي وضبطت نفسي أكثر من مرة متلبساً بمتابعة أسرارهن وأحاديثهن وخفايا حياتهن ، كلما زاد عدد الموتى زاد سروري فبذلك أحصل علي جلباب جديد ومبلغ أشتري به حلوى وأعد نفسي لكي أغوص في بحر من القهوة والصدور العارية .
جنازة " حسن الباشا " أروع حدث شهدته في حياتي، يومها رأيت ابنته للمرة الأولي كانت في مثل سني أو تصغرني قليلاً.. تبكي بحرقة وتلطم خدّيها وتصرخ صرخاً يمزق نياط القلوب وهى تعدّد وتنوح ومن حولها يرتفع النواح فيزدني فرحاً .
رحت أنتقل بين النساء محاولاً أن ألفت أنظارهن لي، ولكن هذه المرة كنّ في حالة حزن حقيقية.. بعض الحزن الذي رأيته في حياتي مزيف .. فبعض النساء يشتد صراخهن لغرض المجاملة فقط أو لتذكرهن قريباً مات منذ زمن بعيد .. ولكن .. " حسن الباشا " شخصية مختلفة ، فهو رجل بر، معظم أهل القرية استفادوا منه ومن عطاياه .. كان يعطي بدون حساب هو من أقام لنا ذلك المسجد المطل علي الترعة الغربية ، هو أيضاً أول من أنشأ مدرسة بالقرية .. رحمه الله .. خرجت وقتها من غرفة الحريم قاصداً أبي كي أساله عن ابنة " حسن الباشا ".. تأملني ساعتها كثيراً وقد لاحظ أنني ازددت طولاً وأخشوشن صوتي.. وقال لي : ما شاء الله .. بقيت راجل وبتفكر في البنات وأردف قائلاً : روح لأمك دلوقتي خليها تجهز كفن كويس .. هاته وتعال.. قصدت بيتنا مسرعاً .. وجدت أمي تجلس – كعادتها – بجوار الفرن تقذف بفتحته غصناً طرياً ليزداد اشتعالاً نظرت ناحيتي قائله: إي اللي جابك يا واد..

أجبتها . أبويا

.. ضحكتْ .. فأضفتُ قائلاً : أبو يا عاوز الكفن الحرير لـ " حسن الباشا "..

نظرت باتجاهي وهي مستمرة في الضحك وأنا أتحاشى نظراتها ولم أكن أعرف لماذا ..
ثم قالت : خشّ جوه تلاقيه علي السرير خذه وبطل تنطيط .. وروح لأبوك بسرعة ولاّ الراجل ح يفضل مستنيكو طول النهار عشان يندفن ..

حملت الكفن باليد اليسرى وأنا أمسك باليمنى رغيفاً ساخناً غافلت أمي وأخذته ورحت أمزقه بأسناني والتهمه في طريقي لبيت " حسن الباشا " .. أوقفني لعب الصبية قليلاً .. نظرت إليهم كأني أصبحت شخصاً آخر، فمنذ دقائق قال لي أبي كبرت وأصبحت رجلاً..
نظر لي أحدهم وأخذ يهتف: ابن الحانوتي أهو ..

ابتعدت عنهم وأنا أسبهم وألعنهم في سري.. دفن حسن الباشا وأقيم له سرادق ضخم .. بعدها تعودت التردد علي بيت " حسن الباشا " فعرفت " هـدي " ابنته ومع الوقت أدركت أني أحبها – بل أعشقها عشقي للهواء ذاته – ومن معرفتي السابقة بطباع النساء أصبحت كالسوس الذي ينخر في عظامها وازداد تعلقها بي . جذبتنا حقول الذرة كي تشهد علي أول قبلة لنا واستهوتنا تلك اللعبة الملعونة فرحنا نلعبها في قسوة وشهوة جامحة.. كنت كمن ينصب لها فخاً فوقعت فيه .. ولم أرحم طفولتها .. سرعان ما تبينت أنها حامل.. أبنه الأربعة عشر ربيعاً حامل.. !! يا لها من كارثة.. يا لله ..
امتلأت رعباً ولم أجرؤ علي مصارحة أبي بالحقيقة .. وأخذت أتحاشى المرور بجوار بيتها، وأتملص من لقائها.. ليتني ما كبرت .. رحت أضرب بعيني وأذني تجاه بيتها أحاول أن أتلصص أي حوار دائر وفشلت! أي أحمق كنت ؟! عدت يومها لفراشي، وغرقت في النوم المليء بالكوابيس المزعجة .. وحين استيقظت تحقق أفظع كابوس في حياتي.. ماتت هـدى .. ابتلعت سماً، وماتت تحمل سري معها.. طبيب الوحدة عرف سرها ولكنه أخفاه إكراماً لوالدها الذي كان له الفضل في تعليمه وصرح بدفنها .

عرفت وقتها المعني الحقيقي للموت.. ابتعت لها الكفن بنفسي .. كنت أسمع صراخ النسوة كعواء ذئاب تنهش في لحمي.. وأحسست باقتراب الموت ورائحته .. فللموت رائحة خاصة أعرفها جيداً .. كتمت أنفاسي وأنا أبكي وأخذتني غيبوبة طويلة تمتلئ برؤى وهلاوس متناثرة .. ظنت أمها أن ذلك من أثر تعلقي بابنتها.. أصبحت من يومها شرنقة آدمية لم أستطع أبداً أن أتجاهل أنني السبب في موتها.. أي قاتل كنت!

وهبتني حياتها .. ووهبتها أنا الموت .. كرهت كل سرادقات العزاء.. وهرعت أتنفس هواء محملاً بطقوس الحياة.

أغلقت " هـدي " الأجنـدة وهي تتـمم:
يا له من خيال جامح!!


1/6/2000

This entry was posted on 8:29 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

3 التعليقات

فعلا ياله من خيال رائع يامعلم

سلمت يداك

الاستاذ| محمد ابراهيم محروس

اشكرك على مرورك واعتذر منك عن تأخري في الرد على ما كتبت عن "ملاك النار".. رأيته حالاً وها أنا ارد :)

لفتتني مسألة "نقاط الضعف الكثيرة" في السيناريو هذه، لو كنت تقصد"الموضوعات المحروقة" مثلا فهذا ضد اعتقادي الشخصي، لا توجد اي موضوعات (تيمات) محروقة، بل هناك معالجات محروقة.. وهذا ما لا اراه في السيناريو حتى الآن..
لو كنت تقصد نقاط ضعف اخرى، وكانت حاضرة في ذهنك دون تحميلك عبء قراءة جديدة، أرجو تنويري بها :)
بالنسبة لما لاحظته من تشابه، فهذا صحيح، وأدى إلى معركة مريرة أسفت لها جدا.. على العموم، شكرا لاهتمامك ودمت بخير

و يالها من قصة..
جميلة .. خصوصا نهايتها..
كل سنة وانت طيب

إرسال تعليق