امرأة اللؤلؤ  

Posted by: محمد إبراهيم محروس



امرأة اللؤلؤ..
كنت معتادا على هذا الأمر منذ سنوات ، تقريبا في حينا هذا الذي يطل على البحر باتساعه الشاسع ، دوما هناك نوع خاص من الأشياء تحدث ، يخفيها البعض عن البعض ، وتدور بيننا في خفاء يكفي أننا نعرفها كلنا فلا داع لكي نطلق الحديث عنها دون فهم السبب ..
أحدوثتنا كلها أن تتم في خفاء .. البحر الذي لا يخفي سوى أسراره كان يداعبنا أحيانا ، كانت في أحايين كثيرة مداعبات غليظة مؤلمة ، فيأخذ منا أشد رجال الحي قوة وبسالة ..أو يأخذ مركب صغير بشراع لأسفله ولا يدلنا على أي أثر لها سوى بعد سنوات عديدة .. لا نعلم متى بدأ أحدنا يفتح فمه بالكلام عن البحر بتلك الصورة الجديدة .. كل ما أتذكره جيدا أن يوما ما في زمن ما أطلقت أسطورة عن فتاة أحبت شابا رفض عائلته أن يزوجوها له ، فهاجم الشاب يومها البحر بزورقه في صراع حتمي لا تعرف له سببا سوى الحب المغرق في الرومانسية .. ولكن البحر لم يعد بالشاب وعاد بالزورق فارغا ، جن جنون الفتاة ، وأخذت الزورق لتخوض بحارا كثيرة لتبحث عنه .. وعندما عاد الزورق مرة أخرى فارغا أيضا .. نصب حوله السكان سورا غريبا من الحجارة والأصداف .. ودخلوا قوقعة الذكريات قافلين أبواب عقولهم عن البحث .. بعد مدة حقيقة لا أعرف مداها بدأ يحدث ما يحدث ، امرأة بيضاء طويلة تعبر الشط في الليالي القمرية .. جسدها يضوي تحت عقود من اللؤلؤ بلا نهاية .. أصبح سرّ قرينا سرّا ، عندما فزعت عروس من نومها قبل دخلتها بيوم ، وذهبت جريا للشاطئ؛ لتفترش الرمل نائمة؛ تتطلع للقمر ، يومها حكت العروس لأمها كيف حصلت على حبات أول عقد من اللؤلؤ يدخل حينا.. حيث وقفت امرأة اللؤلؤ على رأسها وداعبت جيد الفتاة بيدها قبل أن تضع عقد اللؤلؤ في رقبتها ، وتغيب الفتاة عن الوعي لدقائق ، وعندما تفيق تجد العقد يضوي في رقبتها ، أخفى أهلها الخبر عن العريس ، ولكن في الليلة التالية وفي العرس لمع جيد الفتاة بعقد لؤلؤي فريد .. وكتمت الفتاة السر عن أهل زوجها ، وكتم زوجها السرّ أيضا عن أهله .. ولكن الغريب أن العقود أصبحت شيئا عاديا جدا في حياتنا بعد هذا، قبل أي زواج يحدث في حينا ، وفي ليلة الحنة ، يحدث ما يحدث ، وتتزين العروس ثاني يوم بعقد من اللؤلؤ .. الأمر كان مدهشا ، وحفظ في الصدور.. لا أحد يبحث خلفه ، ولا أحد يتحدث عنه ، أنه نذر سيدة اللؤلؤ ، الذي شاهدتها تقريبا وأنا في الرابعة من العمر أو السادسة ..
كانت اللآلئ تلمع فوق جسدها وتغطيه ، كانت بيضاء بعينين زرقاوين ، لا تستطيع أن تميز هل هي تكتسي بملابس مثل باقي النساء أم أن اللآلئ هي ملابسها ..
حفظت شكلها وطولها كما حفظها معظمنا ، حتى أسئلة الأطفال المعهودة في ذلك السن ، كتمت أمهاتنا أفواهنا ، وهن يتفحصن عقود اللؤلؤ المختفية في صوان ملابسهن ..
كانت الحياة داخل حينا كما هي ..الأطفال يكبرون ، ويحلمون ، يعشقون ، يحبون ، يخطف بعضهم البحر ، وآخرون يتزوجون .. لا زواج من خارج الحي .. الهدوء من كل شيء .. السكون .. القواقع مفترشة الرمل ، وصوتها الهامس في الآذان ، حبات اللؤلؤ التي تهدى للعروس ليلة زفافها ، التكتم ، ولكن حدث ما حدث دون قصد منا .. دون أن نفكر كيف يكون العشق في حينا .. يومها ..
جاءت الطبول تدق ، والرايات ترفع ، والكلمات تضوي ، سيرك المدينة الكبرى يقدم إلى بلدتنا ، سيرك المدينة الكبرى ، فتاة الضوء ، الأسود ، لاعبات الاكروبات، المشي على الحبل .. الساحر الرهيب ..
لم ننتبه وقتها سوى لأنه حدث فريد في حينا ، لم نستطع أن نرفض وجودهم ، أجل معظم المحبين زواجهم حتى يرحل السيرك ، وأخفت الأمهات عقود اللؤلؤ في باطن الأرض وخرجت مراكب للصيد ، وعادت مراكب .. وراحت فقرات السيرك تتوالى يوما بعد يوم ، الانتظار كان حلمنا ، لا نريد أن نلفت الأنظار إلينا ..وإلى سرنا ..
استمتعت مثل الآخرين بالأسود ، والساحر ، والرجل المطاطي ،أظن كان اسمه رماح ، أدهشني جسده وقتها؛ كيف يضع نفسه ككل في طوق لا يعبر من خلاله طفل صغير مثلي .. وكم كانت دهشتي رهيبة وأنا أرصد نفسي ليلا؛ أحاول أن أقلده؛ لأمرر جسدي من طوق عجلة وأفشل . أعتاد الأهالي أن يهبط بعض أهل السيرك إلى حينا لشراء أسماك أو عقود زينة أو للبحث عن طعام جديد لا يألفونه ..
برغم الحذر ، شاهدها يومها .. كانت تجلس في غرفتها ، سارحة في الخيال ، تتأمل بين يدها عقدها اللؤلؤي ، وتندب حظها لقدوم السيرك ليلة عرسها الذي تأجل إلى حين ، لم ترد أن تقول لأهلها أنها حصلت على العقد ليلتها ولكنها أخفته في صدرها ، تخرجه كل حين تعد حباته ، وتعود لتدسه في ثنايات الصدر .. ولكن في لحظة غفلة منها ، وعبر شباك موارب لمح العقد ، وابتسم لها ، لمحت هي عينيه اللتين بدتا لها أشد لمعانا وقوة من حبات عقدها .. وسحبها السرّ الذي لا يعرف من أين ينشأ ، فراح صدرها يخفق ، ويخفق ، وعيناه تبحران عبر عينيها في رسالة قدرية لا تعرف من أين تبدأ .. ليلها بدآ يتواعدان ، كان ينهي فقرته ، ويخرج الحمام من منديله ، ويقطع فتاة نصفين بالسيف ، ثم يلتقي بها في خلف الخيمة ، يتهامسان في عشق ُولِد غريبا .. الساحر يحب فتاة من حينا ، سرّ آخر ، كم يملك هذا الحي من أسرار ..
تسلل خبر الفتاة إلى أبيها في ليلة عاصفة ماطرة توقف السيرك يومها عن عروضه .. تسلل عبر صبي صغير شاهد قبلة بين الساحر والفتاة ..
ولمعت عيني الأب يومها بقسوة رهيبة وهو يضع في يد الصغير قرش فضي اللون .. ويرجوه أن يكتم الآمر تماما .. وأوفى الصغير ..
ولكن الأب هاجم الفتاة ، وضربها بعنف رهيب وكاد أن يقتلها لولا تدخل أمها وتعلق الصغير بقدميه متوسلا .. يومها حدث الأمر الذي حرمنا كلنا من سيدة اللؤلؤ ..
فقد اختفت الفتاة من بيتها برغم الأقفال التي أغلقها أبوها خلفه وهو يخرج قاصدا قتل الساحر ..
المدهش اختفاء الساحر أيضا .. قلب السيرك عنه ، وساءل الجميع ، الكل لا يعرف أين اختفى ولكن عندما عاد وجد الأقفال كما هي واختفت الفتاة ، تاركة عقدا من اللؤلؤ على سريرها ، يومها جن أبوها وراح يدور في الحي والعقد بين يديه يضوي ، يتساءل أين ذهبت ابنته ، دون إجابة .. ثم مزق حبات العقد ونثرها على الطريق ..
كان الأمر مدهشا عندما فوجئ الأهل صباحا باختفاء زورق سيدة اللؤلؤ المحاط بالأسوار ..
كل الظن ذهب أن الفتاة أخذته وهربت هي وحبيبها الساحر ، ولكن كيف يمضي زورق كهذا في هذا البحر ، البعض أقسم إنه شاهد الفتاة في طرح البحر ، ولكن على الدفة كانت سيدة أخرى تقوده.. سيدة يلمع جسدها تحت آلاف اللآلئ ..
ولكن المدهش توقف هدايا سيدة البحر لأي عروس بعد هذا اليوم ،واختفائها نهائيا ..
وغادر السيرك الحي دون ساحره في تساؤل غريب عن مكانه ، وظل محفورا في داخلي تفاصيل ذلك اليوم باختفاء الفتاة ،وسيدة اللؤلؤ ، ورماح وطوقه العجيب ، وذلك القرش الفضي الذي احتفظ به للزمن ، كشاهد على يوم في حياتي تاهت فيه الأسرار ..

This entry was posted on 7:25 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

2 التعليقات

أسلوب رائع..
و النهاية جميلة ..
أن نكتشف أنه هو الذى تسبب فى انتهاء الأسطورة فجأة جاء جيدا جدا..
تحياتى..

الف شكر أختي الفاضلة حنان
والف شكر لكلماتك الرقيقة
شكرا لك
واتمنى دوما تجدد الزيارة
خالص تحياتي

إرسال تعليق