ليتني لم أولد..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

http://farm1.static.flickr.com/229/475142135_4c86a939be.jpg

ليتني لم أولد..

في حالتي تلك أحاول دائما أن أبدو أمام نفسي شخصا آخر ، إنسان يزيح الغمة عن عينيه ليرى إلى أي مدى وصل جنونه بالحياة ، في لحظات خاصة مع النفس تنكشف الحقيقة تدريجيا لأكتشف بعد مدة أنني لا شيء ، لا شي خاص في هذه الدنيا ، بكل تلك النكبات والخبطات ، وكأنني ولدت مع طبيعة أخرى غير طبيعة البشر ، دون الاندماج في الأحداث ، وتشويه الصورة ومحاولة التفزلك ، هناك شيء آخر خارج حياتي يمت لي بصلة ، ربما لا أراها ، ولكني أعي وجودها جيدا ، أنتشي في لحيظات نادرة تتأمل نفسي نفسي ، فاكتشف بكل بساطة أنني لا شيء ، هكذا تبدأ الحكاية كلها ، إحساس رائع أنك مجرد نقطة لا ترى بالعين المجردة قمة في الإمتاع إذ كان التضاؤل بحجم مشاكلي وهمومي البشرية ، اعتدت أن يومي مجرد خمس عشرة دقيقة ، أقضيها في احتساء كوب من الشاي مع سيجارة ، ثم تصبح حياتي بعد هذه الدقائق الخمس عشرة مجرد محاولة للخروج من الساقية ، محاولة مميتة للشعور بآدميتي ، منذ سنوات لم أعد أعرفها أو أحسبها ، انتهيت إلى البداية ، انتهيت إلى أنني أعيش كل يوم هذه الدقائق الشحيحة البخيلة، أما باقي اليوم فهو نكسة تصيب تكويني الآدمي، حيث أتحول لهذا الثور البهيمي المربوط والمغمض العينين في ساقية الحياة ، من المخجل أن أعترف أمام نفسي أنني ثور ، ولكن من البديهي ألا أعترف أنني حمار ..

برج القوس .. هكذا تقول الجرائد اليومية عندما أعود لتأمل تاريخ حياتي وأنا أستعرضها يوميا، قالت حظك اليوم، أخبار جديدة في الطريق إليك مع بدايات مبشرة بعام حافل من العمل..

وكأن على هذا البرج وقوسه اللعين أن يكمل على البقية الباقية مني ، وأن يقول لي بكل بساطة ستظل " تورا " ، وكأن الجرائد نفسها تعاندني ، وأن لا التقاء بين القوس والعذراء في اقتراب زحل .. شيء من هذا الجنون المرتبط بالحظ ، والمختلط بالكثير من الهراءات ، بكم أشتري نفسي ، عندما حاولت أن أتخيل نفسي في مجملي مجرد شخص عرضة للبيع والشراء ، اكتشفت أن المزاد سوف يصير إلى فراغ ، وأن الشاري ربما تعاطف علي ومنحني أكثر من الدقائق الخمس عشرة ؛حتى أكون إنسانا ، لا أعرف حقيقة من أين تبدأ مشكلتي ، ولكن ما أدركه بكل ثقة أنني أشعر بالضياع ، وأشعر باللاجدوى ، احترت كثيرا بين تفسير هل أنا مسير أم مخير ، احترت إلى أي درجة تسير حياتي أو تصير .. لا علم لي حقيقة بطبيعة الفلك ودوار النجوم ، ولا علم لي بالهوس المرتبط بالفلسفة البشرية وتعبير الأنسنة الذي بدأ يغزو الحياة ، لمكاشفة النفس ، حجة مكسورة وغبية ، حجة الضعيف عندما لا يجد ما يربطه بالحياة سوى مكاشفة النفس؛ فيكتشف أنه مهما أصابه الوجع والتألم ففي النهاية هو مجرد لا شيء ، تتركز بصيرتي أحيانا بداخلي ، أتأمل تفاصيل جسدي، أحاول أن أنحي العقل جانبا ، ثم أردد بيني وبيني أيضا أنني حر ، حر في كل تصرفاتي وحياتي ، حر في الخروج من الشرنقة ، حر لأمضي إلى أي مكان أعشقه ، حر لأقصى درجات التمتع بكوب الشاي والسيجارة ، ثم أتأمل من جديد واكتشف أنها أيضا بلا جدوى ، وأنني وبعد إقلاعي عن التدخين ، صرت أكثر توحشا مع النفس ، وصارت الدقائق الخمس عشرة دقائق مميتة وطويلة لأنني في هذه الحالة أبحث خلالها عن نفسي بعيدا عن دخان كنت أنفثه تحسبا للضيق ، قال لي صديق عزيز حالتي أصبحت تصعب على الكافر ، بطل تفكير ..

التفكير، يا لها من كلمة.التفكير. ..

حتى الذكريات التي أحملها منذ سنوات بداخلي أصبحت تهرب متأثرة بسرعة دوران الحياة ، التعطش للحياة كنز ، لن أصل إليه أبدا ، لا أدرك حقا بحديثي هذا معي ، سأخرج بفائدة ما أو أنني سأعود لأرمي حمول حياتي في بئر عميقة ، متخيلا أنني أنجو بنفسي من نفسي ، ولكن حقا وصدقا ، لا أعرف أي شيء .. كل المحاضرات التي ألقيتها على نفسي منذ أمد لم يعد لها ما يبررها ، كل نزواتي السابقة ، وأفكاري المجنونة لم يعد لها أي أهمية ، اعتقدت لوقت طويل أنني إنسان خاص لي طبيعة خاصة وتدور من حولي أحداث خاصة لا تحدث في حياة الآخرين ، اليوم الذي يمر في حياتي دون كارثة أو مصيبة هو يوم فريد ، وكأنني ولدت لأتحمل الصدمات ، أو أنني تحولت إلى إنسان يقف أمام قطار مسرع يصدمه القطار ، يقف على قدميه ليرمي نفسه أمام قطار آخر ، في هذه السنة فقدت أصدقائي بطريقة جعلتني أشك أن القدر يريد بي أن انفرد بنفسي وأن أتحول لمجرد شرنقة ..

كريم.. هكذا كان اسمه ، وفعله ..

كريم .. بسيارته البيضاء كقلبه ، كريم بمعالم وجهه الطفولي الذي يضرب قلبي الآن ، كريم بشقاوته ولعبه مع الحياة ، كريم بعربته وهو يشاكسني قافلا علي الطريق وأنا أمشي مترجلا ، بمرحه الطفولي يعرض توصيلي ، اكتشف أنني لا ذاهب إلى أي مكان ، فأشكره وأنصرف ، ليأتي الغد ليحمل لي نبأ وفاته بطريقة عجئبية ، كريم بسرعته على الطريق ليصطدم بحائط خرساني في محاولة لتفادي امرأة عجوز على مقعد متحرك ، أنه كريم حتى في موته ..

عبد الرحمن ..

وحبه الجنوني للفراخ .. عبد الرحمن وثروته التي كنت دائما أمزح معه قائلا يا أخي لماذا تعمل ؟وما لديك تستطيع أن تشعله ولا ينطفئ إلا بعد سنوات .. عبد الرحمن وضحكته الصافية ،عبد الرحمن الذي يعطش الجيم ، عبد الرحمن الذي يمشي على الأرض وكأنه يطير ، عبد الرحمن بعينيه الزقاوين المتبحرتين خلف أسرار الحياة ، عبد الرحمن وهو يركن سيارته الفارهة في الشارع ليمشي طويلا معي ، ويحمل بين يديه سندوتشات الفراخ البانية يوزع بعضها على القطط وبعضها على أطفال الشوارع .. عبد الرحمن وهو يودعني مسافر للإسكندرية.. غدا عملية جديدة هل تريد شيئا ، عبد الرحمن العابث بالحياة وكأنه طفل صغير يبحث عن نفسه ، عبد الرحمن عندما يأتيني الاتصال بعد أيام ، لقد حرق عبد الرحمن في إسكندرية ، كيف ، هبط لمساعدة عامل في إصلاح أحد الأوناش ، وملابسه كلها ابتلت من البنزين ، وعلى بعد أمتار منه يقطع عامل آخر أسياخ من الحديد "بالصاروخ " لتطير شرزة ضالة ولكنها تعرف طريقها ، ليشتعل جسد عبد الرحمن ، يشتعل وجداني بالمثل عندما أعرف أن الزيارة ممنوعة ، أكلم أخاه ، يكلمني ، يطمئنني أن الحرق بسيط إن شاء الله ، الخوف على الوجه الذي طالته النيران ، وكأن الحياة تخيفني وكأن القدر هو الذي يقرر أين أنا من كل هذا ، عبد الرحمن أتى صوته خلال التليفون مرحا مهذارا وهو يقول لي : هات لي معك سندوتش فراخ متنساش .. عبد الرحمن أحدثه يوميا أحاول أن أخرجه من حالة الاكتئاب التي أصابته وأنا الذي حياتي مجرد دورة اكتئاب ممددة .. أحاول .. سأتي إليك .. منعين الزيارة .. نتفق على السفر أنا وأصدقائي ، نسافر ولا نستطيع الدخول إلى المستشفى؛ وكأن القدر يصمم يا صديقي ألا أراك في حالتك تلك ، تشير لنا من نافذة المستشفى ونحن أسفلك ، ننتاقل أجهزة المحمول بيننا نهاتف نصرخ في الشارع ، نلمح ابتسامتك ويدك الممدودة من الدور الثالث ، وهتافك المرح .. جبت سندوتش الفراخ ..

أضحك لتضحك، أحاول أن أتخيل شكلك بعد الحريق أفشل، وأفشل.. أعود من سفري محملا بآخر عباراتك .. أنا كويس فكها أنت بس شوية ، وبلاش تعاند الدنيا .. أنام لأصحو، على صوت وليد أخوك يا عبد الرحمن، يقول من وسط دموعه: صحبك مات..

لا أدري حقا وأنا ألثم جبينك قبل أن نهيل التراب عليك أي دموع داخل روحي ما زالت، وأي روح لي وقد انسكبت خلفك يا عبد الرحمن.. وكأنه القدر يبغيني أن أظل وحدي ، داخل الشرنقة ..

شرنقة، وساعات لا تنتهي من التفكير بأي لحظات تمضي الحياة بي هل، وهل.. أي عبث هذا الذي يدور لي وأي حياة تدور حول شخصيات حياتي..

للحزن أبواب كثيرة، ولكن أبواب حزني أصبحت لا تنتهي...

لا تنتهي .. ليتني لم أولد إنسانا قط.. ليتني لم أولد..

This entry was posted on 10:20 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

2 التعليقات

لست أدرى أهى قصة أم خاطرة .. و إذا كانت هذه الاحداث حقيقية أم لا .. لكن كل الذى أعرفه أنها حزينة .. مؤلمة .. وصادقة..

دأب الأيام أن تسوقنا .. تحمل الفرحة بعيدا عنا قسرا و كرها
حتى الأصدقاء الذين يجعلون الحياة مُحتملة تأخذهم منّا دون مقدمات
و تظل الأيام تراقبنا و هي تسرق منّا كل معاني الحياة
حتى تصيبنا بالذهول و تتسع أعيننا و الدموع لا تحمل أي قرار بالفرار من عيوننا ..
ثم نصاب بالبلادة و السأم
ماعاد هناك ما يعني لنا شيئا ..
و ماعاد هناك أي احتمال فقط نكمل الطريق دون أي احساس ..

إرسال تعليق