مزامير الحي  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

مزامير الحي ..
بقلم محمد إبراهيم محروس .
تفتح شباك نافذتك ، تتطلع إلى الشارع في هذا الوقت من الليل ، السكون الدائر حولك يدعوك للتأمل .
شرخ في ذاكرتك ، لا تعرف من أين يبدأ أو إلى أين ينتهي .
ترى بعض الأضواء المتراقصة في نهاية الشارع .. تعرف أن فرح ( عفاف) قد انتهى منذ مدة، وأنك لم تحضره، وأنك لم تكن العريس الموعود..
تتذكر أنك لم تحب ( عفاف ) يوما ما بالقدر الكافي ، برغم كثرة مقابلتكم .. ولكنك أحببت كل فتيات الشارع، تكتشف أنك تحب الأنثى لمجرد أنها أنثى.. كل مغامراتك تتذكرها، ترجع بعقلك أن أحد أحلامك البسيطة هي زوجة ، وشقة ، وطفل يعبث بشاربك الكث الذي تفخر بوجوده .
ترى صبي مقهى الميدان يبدأ في الاستيقاظ، بعد وهلة يبدأ في فرش كراسي المقهى.. تنادي عليه بصوت هامس مسموع ، يقترب منك وفي عينيه وخم النوم .
تطلب منه كوبًا من الشاي، يضحك وهو يخبرك إنهم لم يبدأوا بعد.. ومن الأسهل أن تخش مطبخك لتصنع لنفسك كوب الشاي.
يعود للمقهى مسرعًا مع وعده بإحضار الكوب عندما يستيقظ الآخرون .. تعود أنت لحالة التأمل اللا نهائي ، تجد صعوبة في النوم ، وتجد صعوبة في الدخول؛ لكي تعد لنفسك كوب شاي ، تخرج سيجارتك التي أصبحت إحدى ضروريات حياتك ، التي هي فى الأصل بلا ضرورة حتمية ..
تنفث الدخان إلى الهواء ، تبحث بعينيك عبر الشارع عن شيء خفي .
وتثقب بعينيك جدران الحوائط في منظر تخيلي عجيب، خيالاتك المريضة تفتح نوافذ الشقق ، وتهدم الحوائط . تنظر داخلها بعين خيالك.
تتصور ( مروة) وهي تنكفئ على كتبها من أجل الثانوية العامة ، تتخيلها في قميص وردي وقد كشف عن ذراعين ممتلئتين .
تتذكر كيف كنت تحملها وهي طفلة بعد .. تتصور أن درس اليوم في علم الأحياء والجهاز التناسلي ، تضحك من نفسك ، وتتساءل ما الذي يدرسونه للبنات اليوم في المدارس ، تتذكر نصيحة أحدهم عن الوعي الجنسي ، وتضحك .
تتخيلها بين ذراعيك عطشى إلى الحب ، تتوجس من نفسك خيفة .
تهرب بعين خيالك إلى عم ( صافي) ، ومرضه الدائم وتردده على العيادات ، وعن ابنته ( هدى) تتذكر أنك أحببتها دون الأخريات بكثير ، تتخيلها بعد سفرها للخارج مع زوجها الثري العربي في بيت الجواري ، وقد ارتدت بذلة رقص شرقي ، وراحت تتمايل في غنج ، وقد اتشح أميرها العربي بالسواد ، وخنجره المتوارث يضعه في جراب حول وسطه وقد ربطه بحزام عريض ، ويستمر الرقص .. يضجرك التخيل .
تميل بنفسك إلى الهدوء ، تجد بعد وهلة أن اللعبة تستهويك .
تبدأ تبحث عن صور لأخريات في ذاكرتك ..
الشارع ممتد ، والبيوت أسرار ، وحوامل أختام نفسك ضلوا عنك بختم الراحة والهناء .. تخترع لنفسك قصة أخرى .. وتبدأ في عزف مزامير خاصة بك ..
تتصور ( سعدية) زوجة البواب ، وتتخيلها في قصة النداهة ، ثم تعود لنفسك من جديد .
عالمك متشابك وعجيب ، بنات أفكارك يعبثون بك .
مريم وزوجها المسجون في الواحات ، من يؤنس وحدتها ، زينب وزوجها الذي يعمل في الخليج من يلبي طلباتها .
تضليل ثم تضليل .
هذا ما تراه بعينيك عبر السدود اللامرئية للعالم .. تبدأ منذ البداية ، تشاهد عبث ظنك بالأشياء .
حواء ، وآدم قصة تتكرر في خيالك آلاف المرات ، الوعد بالجنة ، والنار يؤرقك .. تتوقف مزامير خيالك عن العزف .
تبحث عن حل وسط جنونك اللانهائي .
هل كانت الأفعى أم إبليس السبب ؟!
وهل حقًا حملت الأفعى إبليسا بين فكيها ودخلت به الجنة ليغوي آدم؟! ..
هذا ما قاله لك صديق إنه من البديهيات ، لا داعي لترفض أفكار الآخرين .. هكذا قالت لك ( عفاف) في يوم ما .
تشرد إلى جورجيت اليونانية وأمها ، تتذكر كلمات الأم وهي تحذرها من الرجال في سن مراهقتها الأولى :
جورجيت أوعي جورجيت حد يمسك صدرك ، يلمس جسمك ، أوعي .
تضحك من التخيل بعد رحيل الأم عن الدنيا ، وتضحك أكثر عندما تتذكر أن جورجيت تواعد نصف شباب الشارع ، وأنها أدمنت اللعبة ولم ينفعها التحذير ، تتخيل جورجيت في أحضانك ، ثم تتوجس من نفسك خيفة مرة أخرى ، تخاف من الفشل ، السن يكبر بك ، وكل النساء وصورهم أفكار متعاقبة ولاهثة في حياتك.
تتخيل جورجيت وهي في جسدها الممشوق تجري في الشارع عارية تماما والشباب يقذفونها بالحجارة .. يلهيك التخيل .. ويلهبك.
تبدأ في عزف جديد علي مزامير الحي ..
ترى بعين خيالاتك صورة أخرى لإيمان تلك الفتاة الجامعية التي كانت تعمل في عيادة طبيب العيون المشهور ، وأحبت زميلها التمرجي ، تضحك على ما اكتشفته بعد ذلك أن صديقها كان يتسلل إلى بيتها بعد الثالثة صباحا ، تفتح له الباب بحرص وبقميص يكشف أكثر مفاتنها ، وفي غرفة نومها يمارسان الحب بكل أنواعه ، تتمايل تحت ثقله وهم يشاهدان فيلمًا خاصًا .. تعود للعيادة صباحًا ، يطلبها الدكتور المشهور لنفسه بعد أيام ، ولكنه لا يطلبها كزوجة بل عشيقة .. تضحك من نفسك ، في فترة ما أحببتها ، في فترة ما أدمنت النظر إلى عينيها الخارقتين .. تهرب إيمان من بيت أسرتها مع صديقها الممرض ، تعود بعد فترة تحمل بين يديها أحلام الخيبة ..
يجدد الطبيب المشهور وعوده لها ، تحاول أنت تشفي الحقيقة .. تهرب إيمان مرة أخرى منك ، وكأنها تعودت الهروب ، مثلك أيضا يهرب .. تهرب من الحقيقة إلى الأحلام وإلى الغريب مهما كان .. وكأنك ولدت لتبحث عن حقيقة الدنيا !
تزداد اللعبة خطورة الآن ، صوت مزامير الحي يعلو فوق عقلك وروحك .
تقترب من أبواب مغلقة في نفسك ، وداخلك ، تبحث عن السر ، تجد أنك تعزف المزامير وحدك ، تنظر بعينيك إلى العمارة المقابلة تتصاعد الأفكار مع كل دور وشقة وكأنك تكتب تاريخا جديدا للحياة ..
تقف عند نافذة معينة مغلقة منذ فترة ، ترى بعين خيالاتك صديقتك المقربة التي كنت تأخذها إلى المدرسة صباحا وتعود بها وقت الانتهاء ..تتذكر كم قلت لها إنك تحبها وإنك سوف تفعل المستحيل لتتزوجها عندما تكبر .. ترى أنها كبرت مثلك ، وبعد مشاوير طويلة عبر قطار الجامعة استقرت في شقة في الإسكندرية ، وفتحتها على البحري كما يقولون .
عادت لتتزوج من شخص فاحش الثراء ، تصيف في الساحل الشمالي ، تملك رصيدًا عمر أبيك ما حلم به كما سمعت ..
صوت المزامير يزداد علوًا .
تحسب سنوات عمرك كلها ، تضرب مرتبك الشهري في مئة عام ، تجد أنه لا يساوي ثمن فيلتها الجديدة ، تزيد من عمرك مئة عام أخرى ، ترى أنك لم تبلغ ثمن عربتها .. تزيد من عمرك سبع مئة سنة أخرى .. لم تبلغ نصف ثراءها الآن .
هل جحد آدم فجحدت ذريته ؟!
تضحك من نفسك وتخيلك ، ترى أنك تضاجع بنات أفكارك ..
ترى أن القصص هي لعبتك والتخيل هو حياتك كلها ..
تبدأ في رسم قصة أخرى لك ولها ولزوجها ، صورة لك تقتله وتأخذ مكانه ..
هل قتل قابيل أخاه هابيل عن حق ؟!
أم لأنه هابيل فيجب أن يقتل ؟!
أم يجوز أن قابيل أحب بصدق ؟!
الغريزة دافع أساسي للحياة .. لتعزف مزاميرك وحدك أيها الحي .
تتطلع بعين أخرى إلى المقهى .. ترى أن النهار ما زال بعيدا ، وأن كوب الشاي لن يأتي الآن .
تعود لنفسك ، تتساءل ما معنى الحياة ، وما معنى المتع؟!
وأي متعة ألذ من الأخرى، النساء ، المال ، السلطة ؟!
ترى صفية وهي تساند زوجها في الانتخابات الأخيرة والوعود المتكررة ، سياسة لا تحب ..تتخيل ما حدث بعد فوزه كأنه الجنون ، صفية تمارس الحب مع السلطة ، وزوجها يضمن كرسيه ، تموت أكبر بناته في حادثة مدمرة يبني لها مسجدا وعيادة للبر ..أخوه أصبح يركب أفخر أنواع السيارات وتطارده الفتيات ، مع أنه ليس برجل حق .
وأنت كما أنت تحلم بطفل وزوجة وشقة ، ترى أن أحلام خيالك تثقل على نفسك ..
تشعل سيجارة أخرى ، ترى صبي المقهى ( حديدة) كما يطلقون عليه ، ما يزال مشغولا برص الكراسي ، تنادي عليه مرة أخرى لتقتل إحساسك بالوحدة ، يقترب منك ضاحكًا .
يتساءل إن كنت ما زلت تحتاج لكوب الشاي ، تهمس له ما أخباره ، وهل حقًا تزوج مرتين ، يضحك ( حديدة) المعتوه قليلا ، ويخرج من جيبه حبة زرقاء مستوردة يعطيها لك .
لتظل أنت تضحك، وتضحك
وفي الأفق تتخيل رجلا عجوز يسحب زوجته خارجًا من بقعة خضراء وكأنها الجنة..
ومزامير الحي تعزف أمامك لحنًا لانهائي.. بينما تتراقص كل فتيات الشارع عاريات أمامك ..

This entry was posted on 8:59 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

4 التعليقات

حقيقى بوست جميل اوى وبجد فيه معانى بجد حلوة اوى
تضحك من نفسك وتخيلك ، ترى أنك تضاجع بنات أفكارك ..
ترى أن القصص هي لعبتك والتخيل هو حياتك كلها

ولكن الشىء المهم انك تظل تتخيل وتتخيل والعالم من حولك يسير

تحياتى

شكرا يا
malak
والحمد لله أن راقت لك المدونة خالص تحياتي وشكري
وخالص التحايا

صديقي العزيز محمد ..
انا قريت مزامير الحي اكتر من مرة
لقيت اعصار كتابة منطلق
بتكتب للكتابة
بتترك للقلم السُلطة
بجد عجبتني القصة جدااا
وتتشبث بالذاكرة جدااا

شكرا يا سمسم على كلمك دايما بتوحشيني ويوحشني تعليقك
ربنا يخليكي لي يا رب
خالص مودتي

إرسال تعليق