عتمة الأشياء  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

" عتمة الأشياء "
من وسط عتمة الأشياء, انسحب (بدوى) إلى ركنه القصي في جانب المقهى, تحت الشجرة التي لم يغيرها الزمن إلا قليلاً, فأضاف إلى جذعها شريطًا ملونًا من الأضواء البراقة؛ فتحولت إلى شجرة مضيئة. العجيب أن هذا الضوء زاد قلق( بدوى)، برغم أنه يسكن بصندوقه لتلميع الأحذية بجانبها, منذ سنوات عديدة.أراقبه من مجلسي وألمح في عينيه نظرات الترقب القلق، وأدرك نظرات التساؤل في عينيه، هل سيكفيه ما أجاد به اليوم من رزق عن عدم مد يده للمارة؟السؤال الملح الذي يقلقه دائمًا.. هل هو بعمله هذا يتسول؟!منذ نزح من بلدته في أقصى الصعيد, قد اختار هذا المقهى المشهور، الذي يحتل جزءًا هامًا من الميدان، لم يتخيل أن الأيام ستأتي له بهذا.. أنه يعلم جيدًا ويدرك حجم كرامته التي فرط فيها, والتي انفرطت أمامه كعقد تمزق؛ فنثرت حباته على أسفلت الطريق.. أمامه حذاء يلمع فيه, وينظر إلى ما يفعله بعجب.. حبل النور الملتف حول الشجرة أَضّعَفَ بصره،اهتزاز الأضواء وتراقصها, جعله يفقد تركيزه.. اللعنة!لماذا أصر صاحب المقهى على إنارة الشجرة بهذا الشكل, سأل أحد صبية المقهى هذا السؤال؛ فأجابه ضاحكًا:- لا يا عم الحاج ده الحكومة ..فغر فاه في عجب وهو يقول:- الحكومة ؟!ضحك صبى المقهى :- إيوة يا عم الحاج .. الحكومة نورت الشجرة والشارع كله.. وأخدت من كل محل مئة جنيه, تمن لحبل النور..اشتدت دهشة (بدوى) وانزعاجه, لقد غاب شهرًا في بلدته؛ يعود يجد الشجر كله مضاء. كيف لم ينتبه أن الإضاءة لم تشمل شجرته وحدها ؟!بل كل أشجار الشارع.. مئة جنيه .. معقول!. وشرد بذهنه , الشجرة ملتفة بحوالي عشرة متر سلك.. المتر بأربع جنيهات.. يبقى الحكومة.. أستغفر الله العظيم.. سرقت من كل محل قدامه شجرة ستين جنيه؛ ضحك ..أهو يتسول؟! الحكومة تتسول.. لماذا لا يتسول هو ؟!المقهى يعج بالبشر ، والكل يحتمي بداخله من المطر الذي بدأ يزداد كل ثانية.والبرد القارص فرض سيطرته على المكان.. راحت الأدخنة تتصاعد من داخل المقهى.. وأنفاس (النارجيلة) منتشرة في المكان, والمعسل ذو الرائحة النفاذة, تخترق رائحته رئتيه،وتجعله يسعل باستمرار؛ وأين له بثمن الطبيب؟! حساسية في الصدر.. هكذا قالوا له في المستشفى العام.. لقمة العيش؛ ليتحمل آلاف من الرائحة المؤذية من أجل لقمة العيش.. المطر يزداد.. كأن الكل يعانده حتى الطقس.. الحياة من حوله تتجمع كلها داخل المقهى.اللعنة ! الأضواء مازالت تتعب عينيه، والسعال يجعله متنمرًا قلقًا؛ ليتوقف عن تلميع الحذاء؛ ولينسحب للداخل حيث الدفء، ولكن صدره لن يتحمل حجم وكثافة الدخان ورائحته.نظر إلى الحذاء الذي أنهى تلميعه، ثم برقت في عينيه نظرة متحفزة وصاحب الحذاء يطلبه. بحلق الرجل في الحذاء، وهو يصرخ :- إيه ده .. الجذمة باظت.نظر بدوي إلى الحذاء الذي يحمله بين يديه, وكاد يصرخ؛ لقد لمع الحذاء البني.. باللون الأسود..وازدادت عتمة الأشياء بداخله مع ازدياد بريق الأضواء.

This entry was posted on 6:49 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

5 التعليقات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذ محمد...أولا: مبروك المدونة يارب تكون سبب سعادة وإنتشار لكتاباتك
ثانيًا: يسعدنى أن أكون أول المعلقين لديك...فعلا القصة القصيرة عميقة
عتمة الأشياء التى انارت لى أشياء لم أكن التفت اليها
تلك الوسائل التى يبغى من ورائها لقمة العيش وتبدو فى ظاهرها مهن وهى نوعًا مهذب من التسول

ولكنى أختلف معك الحكومة بما أخذته ثمنًا لأسلاك النور ليس تسولا..ولكنه عفوا نصب مقنع جدااا... بأسم الخدمات العامة

تحياتى وتقديرى

انا بشكرك جدا على زيارتك اللى خلتنى
بالتالى ازورك و اتعرف على مدونتك الجميلة.القصة بديعة.اجمل حاجة عجبتنى فيها هى اللحظة اللى ممكن الانسان يوقف فيها كل حاجة بتدور حوالية عشان يفكر لثانية...انا بعمل اية هنا...و مين كل دول .
و بغض النظر هو غفير ولا وزير...الا انى باعتقد اننا كلنا بيعدى علينا القطر دة فى وقت ما.
خالص تحياتى

أزال المؤلف هذا التعليق.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
شكرا ليكي يا إيمان شرفتي المدونة
خالص شكري
وخالص تحياتي لكلماتك الرقيقة
دمتي بكل خير

teba شكرا
سعيد بمرورك للغاية
وسعيد أن القصة راقت لك
خالص تحياتي وشكري
وخالص التحايا

إرسال تعليق