اعتزال بائع الروبا بيكيا ..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

اعتزال بائع الروبابيكيا

تنتابني حالة من الهدوء لرؤيتها ، ملامحها الطفولية ، ابتسامتها العذبة ، الشفتان المكتنزتان عن صفين من الأسنان التي تعتني بهما اعتناء خاصا ، فتشعر بصفاء الضحكة ولمعانها ، أرى وميض عينيها لثوان قبل أن أبتسم في وجهها :- عاملة إيه يا حبيبة ..

تضحك فتتسع ابتسامتها : كويسة ..

حبيبة إحدى بنتين لعم أحمد الشامي ، الأخرى سماح .

البنتان لديهما ما يشبه الإعاقة الذهنية .

حبيبة هي التي تجلب لي السعادة بطريقة ما ، وهي تحمل أشياء في يديها عندما يمر بائع الروبابيكيا / ضاحكة وأنا أقول لها : إيه اللي شيلاه دا ..

- دا الخلاط بتاعنا هبيعه ، تشتري..

- ها ها ها .. وهتبيعيه ليه ، مش شغال .

- شغال بس هبيعه .

يقلب بائع الروبابيكيا في الأشياء ، ويدفع الثمن الذي تحدده ، والذي يعرف أنني سأدفع له ضعفه لأنه عادة لا يزيد عن ثلاثة جنيهات كل مرة .

وكأنني مشترك مع بائع الروبابيكيا وحبيبة في لعبة لا تنتهي ، هو يشتري أشياءها ،وأنا أشتريها منه ، ثم أعيدها لعم أحمد عندما يعود من شغله مكدودا ، مشغول البال على البنتين ..

التي تضحك دائما ، لا تشرب الماء ..تقول إنه ملوث.

التي تضحك دائما ، تدمن الكولا .

التي تضحك دائما ، جسد امرأة وعقل طفلة .

التي تضحك دائما تبيع أطقم المطبخ بصورة شبه يومية .

التي تضحك دائما تتخانق معي ، عندما أعيد الأشياء لعم أحمد .

التي تضحك دائما ، تقول : إنني عبيط ومش فاهم .

التي تضحك دائما ، تجمع كل مجلات سماح لتبيعها .

التي تضحك دائما .. نضحك عليها أنا وبائع الروبابيكيا .

حبيبة التي تضحك دائما ، تغضب مني لأنني أعيد لأبيها الطبق البلاستيك الكبير المخصص للغسيل وهي تقول : إنها شافت فيه صرصار .

أصالحها أحيانا بزجاجة كولا ..

حبيبة التي تضحك دائما ، جاءتني باكية اليوم ، قالت : إن عم أحمد مش عايز يصحى .

أتساءل ، تجيبني :فاتح بقه ومش بيرد علي ، وبديله صفار البيضة مش عايز يبلعه .

يركبني الفزع ، أجري ، أخبط على جارتها لتأتي معي ، أدخل لعم أحمد غرفته ، أحدق في عينيه المفتوحتين ، أتذكر قلقه وكلامه وخوفه على البنتين ، وكلامي معه إنه زمن لا يرحم !

أتذكر سفر سماح مع خالتها من أسبوعين ، ورفض حبيبة للسفر ، أتذكر كل هذا ، وأنا ألمح جلال الموت يطل من عيني عم أحمد ..

أطلب من حبيبة نوتة التليفونات ، أتصل بمعارف عم أحمد ، أنتظر بجواره ، أحلم بأشياء مستحيلة ، أن ترد له الروح ، ليقف ويتحرك ليحضنني وأحضنه .

حبيبة تقف فاغرة الفم ، تمسك البيضة تنتظر أن يفيق ، ليفتح فمه ليأكل .

تهرب الساعات ، أحضر الغسل ، ترانا حبيبة نجهز الكفن ، تذهب بعقلها لتودع عم أحمد في مكان بعيد عن أحلام البشر .

التي كانت تضحك دائما ، جف وجهها وهي تعطي لي البيضة التي ظلت تمسكها بيدها طوال النهار .

حبيبة التي كانت تضحك دائما ، أراها اليوم تجلس أمام بيتها تحتضن طبق الغسيل البلاستيك ، الذي كانت تنقل لنا به الماء أثناء غُسل أبيها ..أسألها : عايزة تبيعيه .

تنهمر الدموع من عينيها وهي تحتضن الطبق بخوف رهيب ..

التي كانت تضحك دائما ، لم تعد تكلمني وتتهمني بأنني سرقت أباها وأخفيته ..

حبيبة التي كانت تضحك دائما خاصمتني للأبد .. ولم أعد أرى بائع الروبابيكيا .


This entry was posted on 9:11 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

3 التعليقات

جميلة جدا
هيا الصور اللي بنمر بيها واحنا في رحلتنا

تِلكَ اللوحَة التِي قرأتُها .. رسمتُها .. أحببتُها ب جُنونْ
آلوانُ لوحَتَكْ تختارُها مِنْ شروق الشمسْ وغروبهَا
رآقَتْ لِي أكثر مِمّا تظنْ

إرسال تعليق