دير العاشق..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

على امتداد الشوف، الطريق الذي أعرفه جيدًا، أدرك حدوده بقلبي وعقلي قبل عينيّ، هناك تلك المساحة الشاسعة من الفراغ الممتد وكأنه بحر من أمواج الصحراء، تقبع مساكن دير العاشق..منذ فترة، بل منذ، ومنذ.. كنت قد اعتدت المكان، اعتدته بعد أن جلبني جدي من على صدر أمي رضيعًا لم أزل.. ورماني هنا في دير العاشق ..الصحراء المسكونة بالأشباح والبشر.. الرمال الصفراء التي تتحول في الليل لبلورات من اللؤلؤ .. على الصحراء أن تعطيك الأمان إن كنت أحد أبنائها, الأم التي تحتضن كانت هي..
أول شارع في دير العاشق يسكن بيت من دورين، يقطنه حسن الشاكي.. ممثل قديم من أيام أفلام الأبيض والأسود .. عاش في العاصمة سنوات ..
حلم أن يخرج من دير العاشق وجه يناطح نجوم العالم، يحكي كثيرًا عن هوليود، وعن ممثل مصري تم اختياره صدفة؛ ليحل محله في أحد الأفلام؛ لمرضه وقتها، وكيف صار هذا الممثل يقرع أبواب هوليود.. بينما اختفى حسن الشاكي عن السينما ، غاب لسنوات ، وعاد إلى دير العاشق كما ذهب ، وجهًا عاد فقط .
لم يهتم سكان الدير بحسن الشاكي بقدر ما اهتموا بالشجرة العجوز التي أثمرت فجأة بعد عودته بأيام بثمرة غريبة.. وما أقلقهم في عودة الشاكي غياب روحية.. سيسأل عنها ، وعندما يخبرونه بهروبها وراء شاب انجليزي كان في رحلة سياحية إلى الدير ، واغتصب من عيونها الحياة ؛ فهربت معه .. عشقت الانجليزي .. وهربت .
مات الشاكي وهو حي .. مات في بيته حيث أصبح الناس يسمعون شكواه ليل نهار ..بينما تئن حيطان داره من الضجيج .. بعد خطوات عن بيته، منزل واسع به الشجرة العجوز الغريبة، اعتدت أن أرى بطة صغيرة، تخرج منه، تعبث في الرمال قليلا، ثم تعود، كان منزل روحية.. طفلا كنت عندما هربت روحية ، وطفلا كنت وأنا ألمح ممرات دير العاشق تتكاثر فجأة بالبشر ..بحثوا عن الإنجليزي وروحية كثيرًا ، ودون فائدة ..
من الصعب عليّ تخيل دير العاشق دون حسن الشاكي، ودون البطة التي صارت عجوزًا..يقال إن البطة البيضاء العجوز هي روح روحية التي اغتصبها الإنجليزي بعد هروبها معه؛ وقتلها؛ فعادت لتسكن روحها البطة العجوز..
قليلون هم من يعترفون بطول حياة هذه البطة ..
البعض قال إنها تقطع الطريق في صمت منذ سنوات عديدة، ودوما تختفي عن بيت الشاكي..ثلاثون عامًا أو أكثر.. والشاكي لا يعترف بما يقال ..يوما أراد أن يهجم علي بيت روحية، أن يبحث عن البطة البيضاء ويقتلها، ولكنها اختفت, وكأنها تعلن تحديًا آخر..ليالٍ طويلة خرج متسللا إلى بيت روحية ليقتل البطة.. ولكن دون جدوى؛ فشل كما فشل في الذهاب لهوليود كما كان يحلم أو يزعم، كنت ألمحه في أوقات كثيرة في رحلة ذهابه ولا أهتم..
البعض تقول أشياء أخرى عن رحلات الشاكي الليلية.. قال أهل الدير: إن البطة العجوز تتحول ليلاً إلى فتاة رائعة الحسن، وإنها لا تقل جمالا عن روحية، بل هي روحية نفسها، وإنها تسلب الشاكي عقله، فيظل يمارس الحب طوال الليل، وعند النهار تضيع منه ذاكرة الأمس.. ويعثر الأهالي على طفل رضيع فجأة أول كل عام..
كنت أسمع الحكايات المتواترة بشغف طفل، ومع الأيام كبر الشاكي وشاخ، أصابه التعب، مل من حكاية هوليود، وملت أذن الناس منه ومن سماعها.. ولكن رحلته الليلية إلى بيت روحية لم تقل، بل إنه راح يزرع حديقتها بالأزهار لتلف حول الشجرة العجوز ، التي لم تعد تثمر ، ولكنه واصل في سقيها ، حتى أصبح الناس فجأة ؛ فرأوا الشجرة مورقة من جديد ..
كنت وقتها أكبر ، وتتكون ملامحي ، أرى شخصيتي المنطلقة للمجهول ..لدير العاشق بكل حكاياته وغموضه..
وقصة روحية والشاكي التي أخذت شكلا من أشكال الأسطورة.. وطفل كل عام.. وأرفض الذي بداخلي لكل هذا.. الخبال يكبر مع الأيام.. مستني حكاية روحية والشاكي ، مست جزءًا من روحي المتعطشة للحياة ..
بعد سنوات، ليلاً.. تقربت من الشاكي ، كان يقارب السبعين من العمر ، وكنت شابًا يافعًا .. وكان الزمان يختلف، كنت أريد أن أسمع الأسطورة من بين شفتيه، ولكنه لم يحك كثيرًا.. قال:إنه أحب روحية حبًا مستحيلا، وإنه سافر، وعاد وهو يحمل قلبه بين يديه، ولكنها كانت اختفت..موضوع اختفائها وهروبها مع الإنجليزي والبطة العجوز، خبال أهل دير العاشق، خبال.. ولكن عندما يرتبط اسمك بأسطورة ما ، من الصعب أو المستحيل أن تنقدها ..
لم أقتنع كليًا بما قاله وقتها .. هناك إحساس خفي أن الأسطورة ينقصها ضلع ما .. يوما بعد يوم، بدأ ضعف الشاكي يظهر قويا للعيون..وازداد اقترابي منه، لازمته كثيرًا، علمني أشياء كثيرة، التطلع للسماء، انتظار الحلم، معرفة النجوم وأسمائها.. واختفت ظاهرة طفل كل عام فجأة كما ظهرت فجأة..
دعكت ظهره اليوم بالزيت الساخن، رأيته يتململ في سريره ويهمهم.. اقتربت من شفتيه همس: الشجرة العجوز أروها.. البطة البيضاء..
ثم غرق في غيبوبة .. فشلت في أن أجعله يصحو..
وجدت قدميّ تسيران تجاه بيت روحية مدفوعًا بقوة غريبة لا أعرفها، وشعور غامض..وبداخلي هاجس غريب أنني الموعود بالسّر .. الموعود بالأسطورة ..
الشجرة العجوز وما أخفيه..أميل لأسقيها .. الليل يمارس طبيعته السرمدية، أن يخيف البشر..والقمر شحيح الضوء، وخطواتي المبعثرة على رمال الصحراء منذ سنوات.. لمحتها تقترب ، وتقترب ، بلا خوف .. ملت بجسدي بغتة ، لتصطدم يداي بها ، وأحملها .. أتطلع فيها .. البطة العجوز ، رأسها قريبة من فمي وكأنها تريد تقبيلي .. أسحب ما أخفيه تحت ملابسي في قسوة، يد تطبق على عنقها، والسلاح الذي بين يدي يلمع في الظلام..
ثوان وكانت ترفرف بين يدي بينما دماؤها تنسكب على الأرض بعنف رهيب وبصورة غير طبيعية أسفل الشجرة العجوز.. وكأنه الحلم رميتها من بين يدي، وكأنه الحلم عدت جريًا إلى بيت الشاكي.. وداخلي يقول إن الخبل اختفى للأبد..
عدت لأجد الشاكي فارق الحياة .. لم أعرف هل بكيت عليه أم لا ..ماتت الأسطورة بداخلي .. ولكن ما أقلقني بشدة هو ظهور بطة بيضاء تضرب الرمال بأرجلها وكأنه تبحث عن سر ما.. سر لكل ما حدث ..
البعض ما زال يقول :إن النواح الليلي الصادر من بيت روحية ، والبطة التي تخرج الآن ليلا ، هي روح روحية الحزينة على الشاكي ، روح الأسطورة ..
وبدأت أقوال أخرى تتناثر ، وتتساءل عنيّ .. وعن ذهابي الليلي لبيت روحية .. وشجرة عجوز تثمر من جديد فاكهة حمراء لون الدم..وتتوالد الأساطير دون جدوى ..
والآن عاد طفل كل عام يظهر من جديد..

This entry was posted on 11:30 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

18 التعليقات

جميلة جدا، اعجبتني النهاية كثيرا
دائما ما يولد الفضول اساطير جديدة
تحياتي

قصة رائعة حقا
أنت قصاص رائع
ولي الشرف ان اقرأ لك
وحلوة فكرة الأسطورة دي حينما تقتلها
تبدأ في الظهور من جديد
على فكرة مدونتي اسمها
العاشق
وده كان الاسم المستعار بتاعي في فترة من فترات حياتي
ولازال اسم مدونتي
مع تحياتي
عمرو الفقي

انت فظيييييع
بجد حلو اوى اسلوبك


اضفت لامنياتى اليوم ان انضم لحلفه التف فيها الناس واسمعك تحكى حكاوى جميله....
وحشتنى جدتى مع انها مكنتش بتحكى حواديت الله يرحمها

الف شكر يا هناء
سعيد للغاية بمرورك
وسعيد أن الحكاية عجبتك
خالص تحياتي وشكري
وخالص التحايا

عزيزي عمرو الفقي
تعليقك اسعدني جدا
وشرف لي أن تزور مدونتي وتعجبك كتاباتي المتواضعة
الف شكر عزيزي
الف الف شكر
يا رب دايما يعجبك ما أكتبه
خالص محبتي وشكري
وخالص مودتي
دمت بكل خير

دودا الف الف شكر
لتشريفك المدونة
والف شكر لكلماتك التي اتمنى أن أكون من مستحقيها
وعلى الحواديت أدينا عايشين
ونكتبلك كل الحواديت اللي أنت عايزاها
أنا برضه مفتقد جدتي جدا
لأنها كانت أحب مخلوقات الله لي
الله يرحمها
ويرحم أمواتنا أجمعين
الف الف شكر
خالص تحياتي وشكري
دمت بكل خير

روح الحياة ... محمد محروس

لأول مرة منذ زمن ينتابني هذا الشعور بعد قراءة قصة قصيرة ...
أنت تعلم أني لن أجامل لو قلت أنها أفضل ما قرأت من قصص قصيرة منذ مدة ليست كذلك ...
لا أدري سراً لذلك الإحساس الذي تملكني وأنا أقرأ قصتك ...
فلسفة الحياة ... البشر بكل أسرارهم اللانهائية ... وبحثهم اللامتناهي عن كشف تلك الأسرار .... عوالم أشد غموضا ... ونفوساً أشد غوراً من أعماق المحيطات شعرت أني أجوبها وأنا أتجول معك في دروب دير العاشق ...
محمد ...
هناك قصص تقرأها فلا تنساها أبداً ...
تلك قصة منهم ...
هل تصدق لو أخبرتك أن عقلي ارتبك لدرجة أني أشعر بأني لا أجد ما يمكن قوله ..!!

حالة عجيبة حقا ...

برافو يا محمد ...

سعدت بمروري من هنا

القصة لطيفة وليست أسطورية بحته وبها قدر من الواقعة

لان شخصية الشاكي هذه موجودة بيننا جميعاً


تحياتي

الله بجد
خليط من الواقع والخيال
قصتك الفصيرة تلك تركت اثرا روحيا داخلي
وبصمه جميلة
أسلوب ممتع وقدرة كبيرة علي الربط بين ماهو ممكن وبين ماهو مستحيل
كمان انا حسيت اوي شخصية الشاكي
بالتوفيق دائما
تحياتي

يعني د. محمد الدسوقي
يعني المركز الخامس في جايزة الساقية للقصة
يعني صحبي اللي بحبه
واللي شرفنا بالزيارة
ونور البلوج..
وكلامه كبير أنا مش قده
خف يا دكتور
أخوك غلبان يصدق نفسه بعدين
خالص تحياتي يا جميل
شكرا يا باشا

شادي باشا نورتنا يا جميل
الف شكر ليك يا غالي
سعيد أن القصة عجبتك
ربنا ما يحرمنا منك
ومن تواجدك يا جميل
الف الف شكر يا باشا
خالص مودتي وتحياتي

عارفة
ومش عارف ليه
الف شكر لمرورك
والف شكر لكلماتك الرقيقة التي اسعدتني
شكر لك
الف الف شكر
خالص تحياتي

بجد انت كاتب متميز اوى وكل قصصك متميزة يعنى موهبة مش اى كلاام زى نااس تانية كتير

بس ياترى نشرت حاجة ولا لسة؟؟

نورتنى زيارتك جدا

الله يخليكي يا دعاء تعيشي
الف الف شكر أختي الفاضلة على كلماتك الرقيقة
الف شكر
يارب دايما يعجب ما أكتب
بالنسبة للنشر
نشرت كتير في الجرايد والمجلات فوق 50 عمل
بالنسبة للكتب روايتين خيال علمي عن دار ليلى للنشر
وهناك رواية قادة أحلام نارية
عن دار اكتب
الف شكر لتشريفك
خالص مودتي
وشكري
وخالص التحايا

اممممممم
كيف يصبح العالم بدون مخيلتنا وافكارنا المرعبة والشريرة
كيف هم القادمون والراحلون
وكيف كان ذلك الرجل واين ذهب
ومن البطة للطفل يبقى غموض الحياه ذاتها جميل فعلا ومبروك على الرواية

المبدعة الرائعة نهي محمود
صاحبة احلى كراكيب
نورتي المدونة عزيزتي
شرفنا مرورك وتعليقك
الف شكر لك أختي الفاضلة
سعيد للغاية بمرورك
وكلماتك المشجعة
دمت بكل صحة وعافية
ودامت كراكيبك الرائعة
خالص تحياتي

رهيبة رهيبة رهيبة
قصة خيالها عظيم
أنت تتفوق على نفسك كل يوم يا استاذ محمد
أنا مبهورة بهذه القصة وبهذا السرد
ظللت مأخوذة أتابع الاحداث برهبة وحماس شديدين
الحقيقة كل الكلمات لن تصف انبهاري بها وجمالها
أحب جداً جو الخيال هذا وخصوصا حين نسمعه في طفولتنا ويكبر داخلنا

تقبل احترامي ايها الأسطورة

عزيزتي فاطمة من أجل عينيك
طبعا كلامك كبير قوي على الواحد يا فاطمة
دوما أنتِ مجاملة هكذا
ودوما تسعديني بمداخلاتك
يوحشني وجودك في أعمالي وتوحشني الكتابة
ألف شكر لك أختي الغالية
خالص مودتي
وخالص تحياتي
محمد

إرسال تعليق