حادثة ...نشرت في المجموعة القصصية بيت في نهاية شارع  

Posted by: محمد إبراهيم محروس






راحت أمي تسحبني بيدها وتسوقني خلفها تجاه محطة القطار كنت وقتها في الخامسة من عمري ، ولكنني أعي كل ما يدور حولي .. كانت في ذاكرة فوتوغرافية قادرة علي التقاط أدق الصور وتخزينها ، كنت فرحاً بالجلباب الأبيض والطاقية الجديدة ويزداد شوقي لمعرفة كل شيء .. رحت أنقل بصري بين جوانب المحطة وروادها الكثيرين .. وأوقفتني أمي بجوارها وهي تدفع ثمن التذكرة .. لم أكن أعرف سبب السفر لكنني كنت مسروراً أنني سأركب القطار الذي لم أركبه من قبل .. جاء القطار كما رد هائل يسحق كل من يقف في طريقة ، ثم توقف في صوت مزعج .. أشتد زحام الناس وتدافعهم للركوب .. بدأت أمي تسرع الخطى وتشدنى من يدى وتثب بى للداخل .. كان الزحام رهيباً وأصوات الباعة المتجولين صاخبة مزعجة تدوي كصوت آلاف المقارع تدق الرؤوس طال وقوفي بجوار أمي حتي لاحظ أحد الرجال تململها وانحناء ظهرها من كثرة الوقوف وهي تحاول أن تتجنب أيدي الباعة وأرجل الواقفين قبل أن يقول :
رايحة فين يا ست .. لم تعره أنتباهها ولكن عندما كرر سؤاله أجابته في لامبالاه .
-السيد البدوي يا خويا
- شي لله سيد يا بدوي شي لله يابو فّراج .
وقام مفسحاً مكانه لأمي وهول يقول .
- أتفضلي يا ست الطريق لسه طويل ..
جلست أمي وأخذتني في حجرها وراحت تداعب رأسي بيدها كأنها تحاول أن تبث فيها أفكاراً ورؤاً جديدة .. لم أكن أهتم بكل ما يحدث .. كنت أهتم أكثر بفرحتي بالسفر ، وأخذت أتابع بعيني أعمدة التلغراف وقضبان السكك الحديدية وهي تمرامامى في بسرعة مدهشة وأحاول أن أعدها كنت وكأنني أحلم وصوت الباعة راح يزداد صخباً ، أخذتني غفوة لذيذة ورحت في النوم صحوت علي صوت أمي وهي تهزني قائلة : ياللا قوم .. وصلنا .. أخذنا نتحرك بقوة الدافع الذاتي تجاه باب القطار وقفزنا .. وقفنا علي رصيف المحطة وسط زحام شديد وخانق وراحت أمي تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن تأمرني بالتحرك .. خرجنا إلي الشارع .. كان الزحام هناك مختلفاً وأشد ضراوة حتي تظن أننا في يوم الحشر العصيب .. صرنا جزءاً من الزحام المتحرك بعنف وأشتد ضغط أصابع أمي علي يدي الصغيرة وأنا مساق خلفها, أوقفتنا إحدى النسوة وتطلعت إلينا قبل أن تسأل :
ما تعرفيش ياختي سكة السيد البدوي منين ؟!
أجابتها أمى :
أدينا هنسأل .. وربنا يسهل
تابعت المرأة قائلة :
أمال إنتي منين ياحبيبتي ؟!
ردت أمي في إقتضاب وهي تسرع السير والمرأة خلفها تحاول ملاحقتها : من القنال
كنا نخترق الزحام وأنا أعي ما يدور والمرأة مستمرة في ملاحقة أمى بأسئلتها العجيبة هاتفة .
القنال دى اللي كان في الحرب ؟!
قالت أمي وهي تسرع خطواتها وأنا خلفها مجروراً ولست محمولاً :
أيوة .. اللي كان فيه الحرب ؟!
قال احنا كسبنا الحرب دي
أجابتها أمي مزحة :
بيقولوا !!
ورجعتوا تاني لبيوتكم ياحبيبتي ؟!
أجابت أمي وهي تحاول الهرب من تلك المرأة المصرة علي ملاحقتنا وترمقها من حين لآخر بنظرات غيظ قائلة :
الحمد لله رجعنا بعد الهجرة والعملية هديت .. وتستمر أسئلة المرأة متتابعة كأنها وكيل نيابة محترف يستجوب مجرماً عتيق الإجرام .
وأنتي جاية هنا ليه ؟! مش بلدكم بعيدة عن هنا كتير ؟!
أيوة بعيدة .. بس أنا جاية عشان ...
وقطعت أمي كلامها وهي تحدق فيّ كأنها ستفشي سراً حربياً يجب ألا يعرف أحد ثم همست للمرأة بكلمات لم أسمعها .. ضحكت المرأة بعدها وراحت ترمقني بعينيها قبل أن تقول .
ربنا يخلهولك . ويطرح فية البركة .
انشغلت المرأة اللحوح عنا بالنظر إلي أحد محلات القماش .. وأنتهزتها أمي فرصة وولت بالفرار .. جلسنا على الرصيف نلتقط أنفاسنا وعندما هدأت أمي قليلاً أخذتني وسارت وكنت هذه المرة محمولاً ولست مجروراً ، وظهرت لنا قبة السيد البدوي وأقبلت ناحيتا روائح بخور عطرة ، أنزلتني أمي من علي كتفيها وبدأت تسير نحو المسجد كأنها تؤدي عملاً رسمياً وهي تكرر كل فترة .
مدد يا شيخ العرب . مدد يابو فراج .. مدد
زعيق الباعة والمرة كان يتصاعد من حولنا والمولد علي أوجّه .. بين بائع ومشترٍ ولص .. زعيق وزياط وأصوات المجاذيب تزاداد صخباً .. وأسترعى إنتباهي مجذوب بعينه .. كان يرتدي ملابس تجمع بين الطربوش وسروال جيش وجلباب ممزق وقبقاب قديم يطقطق به في مشيته, كأنه يحمل بين أسماله البالية تاريخ مصركلها .. ويخرج من بين شفتي كلام ملؤه الحزن والقلق والترقب ويصرخ فى الناس:
- أنا قلت له : ما تروحشي .. ح يضحكوا عليك .. برضة راح .. بس لمّا يجيي وحياة أمي لأورية .. مدد يا شيخ العرب .. مدااااد .. حي .. وتدفقت دماء الحيوية في وجه أمي بعد أن غادرنا المقام .. رأتنا المرأة اللحوح مرة ثانية قأقلبت مسرعة هاتفة ..
- أيه ؟! لّسة ما حصللش ؟!
- لسة ياختي أديني أهو مستنيه الفرج ..
أطلقت المرأة ضحكة صافية وهي تقول :
قومي معايا .. أنت باين عليكي خايبة أمال حرب إيه اللي أنتو حاربتوها بس ؟!
وأطلقت المرأة ضحكة أكثر صفاء .
ما بين قيام وقعود .. هرولة وهرجلة .. تحيات .. أسئلة وأجوبة .. ولقمة أمضغها .. إبتهالات وتواشيح .. وحلوى ألكها بين أسناني .. إحتكاكات .. إختلاط الحابل بالنابل .. لت وعجن .. ومدد يا شيخ العرب مداااد
وبطريقة ما أصبحنا داخل ذلك السرادق الضخم الممتلئ بالناس من كل شكل ولون شيوخ وشحاذين .. حواة ونساء .. وحلقات ذكر صاخبة الحركة .. وأنا أقف في متعة ونشوة لا مثيل لها .. أقترب منا رجل ضخم الجثة .. في عينيه حول واضح وخطواته ثابته تدق الأرض وكلما زاد إقترابه .. لمحت نظرة مصحوبة بالخوف والترقب والراحة في وجه أمي .. قال الرجل في غلظة وهو يشير لي :
جايباه عشان الـ .......
قاطعته أمي قائلة :
أيوة ......
طب هاتيه .
تعلقت أمى بى ثم تركتني بين يدي الرجل وهي ترتجف ، وكنت هذه المرة مقلوباً ولست محمولاً أو مجروراً ورحت اتابع أمي بنظراتي وهى ترتجف وتبكى والمرأة اللحوح تحاول تهدئتها وأنا في حالة من اللاوعي وناولى الرجل لإمرأة تظهر ملامح القسوة واضحة على وجهها .. وجدت نفسي في غرفة تمتلئ بالروائح الكريهة وظننت أن المرأة سوف تسلقني وتقدمني لذلك الغول على العشاء شرعت أبكى .. تأملتنى المرأة قليلاً ثم حملتنى بين ذراعيها وأجلستنى على مقعد خشبى وأخذت أبكى وأسب وأبصق وهي لا تهتم كأنها معتادة على تلك التصرفات .. كتفنى الرجل في بساطة وباعد بين ساقىُ وأقتربت منى المرأة وبيدها شفرة قد غمستها فى سائل أحمر وأنا أصرخ وألعن وأزعق وأبصق ولا فائدة .. غرقت ملابسى بالدماء ولفت على يدى قطعة شاش بداخلها بقايا آدمية .. واخرجتنى المرأة القاسية لأمى .. عندما رأتني تهلل وجها وزغردت .. وأطلقت المرأة اللحوح زغرودة أشد قسوة وسرسعه والألم كالنار يسرى في جسدى ولا أستطيع تحمله وأصرخ وأصرخ وأتألم وأشتم وبالطبع أبصق .. ودعت المرأة اللحوح وهي تقول :
خليّ بالك منه .
هوّا إحنا صحيح كسبنا الحرب ؟!
أو مأت أمى برأسها قائلة :
- أيوة .. وحياة شيخ العرب كسبناها .
وزغردت المرأة مرة أخرى .. ولمحت المجذوب إياه على باب المحطة وسمعت صوت عالياً مجلجلاً :
- وحياة أمى لأوّريه .. أناح أعرف إزاي أمسك البلد دى .. أنا قلت له ما يروحش .. بس لما ييجيّ .. مدد يا شيخ العرب مدد .. مدد يا بو فرّاج مدد .. مداااد

This entry was posted on 9:27 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

2 التعليقات

جميلة قصتك كما عودتنا يا أستاذنا..
تحياتي

شرفت مدونتي يا فنان يا جميل
شكر لك يا حاتم
القصة ده برغم أنها مكتوبة سنة 97
لكني اعتز بها
خالص تحياتي وشكري
ولا تحرمنا من زياراتك
خالص مودتي

إرسال تعليق