أحلام سيد العصافيري  

Posted by: محمد إبراهيم محروس




ربما كان هذه هي اللحظات الأخيرة فى حياة سيد العصافيري
منذ فترة طويلة وهناك شيء من الأحلام ينمو بداخل سيد العصافيري ،حتى أصبح من المستحيل تحقيقها.
هذه اللحظات القليلة النادرة التي مرت على حياته دون أحلام راحت تنغص عليه كل شيء..
وتقض مضجعه باستمرار.
دومًا كان هناك جزء من الأحلام لا يستطيع الوصول إليها، ودومًا كان هناك ذلك الجزء الضائع من حياته.. فترة لم يحسبها بالزمن، ولكنه حسبها بوجودها هي فى حياته ..
أم مريم هكذا كان اسمها، وهكذا كان ارتباطها بسيد العصافيري ،حيث إنها كانت أم مريم دون مريم، التي فقدتها فى غارات النكسة الرهيبة..
وفقدت زوجها بالمثل، ولكنها ظلت محتفظة باسمها الذي لصق بها لصوقا ليس له مثيل.
كانت أم مريم امرأة بدينة جدا بدرجة مفزعة ،ولكنها فى نفس الوقت ذات روح ليس لها مثيل، روح لا تعرف من أين اكتسبتها أو من أين أصبحت هكذا، برغم أنها فقدت ابنة وزوجًا ..
كانت تلك المنطقة الشعبية تحفل دومًا بأشكال شتى من البشر، ولكن عدد قليل من سكانها فقط من تستطيع أن تطلق عليهم أفرادا، بينما الآخرون مجرد شيء زائد على الحياة ..
سيد العصافيري .. هو الآخر فقد زوجته فى حادثة سرقة .. سرقوها منه وهو يقظ وهذا هو الغريب .. الغريب فى الأمر أنه حدث أمام عينيه .. كانت حياته وقتها قرب رفح المصرية ..
وكانت النكسة .. وجد جنود الاحتلال الإسرائيلي فوق رأسه بغتة..
لمح ضفيرة زوجته فى يد أحدهم، بعد أن صمم الجندي على الاحتفاظ بها كتذكار، ولكن نظرًا لأن سيد العصافيري ضئيل الحجم جدا .. وكانت مقاومته لهم برغم شراستها مقاومة ضعيفة ساذجة .. ضحك الجنود كثيرًا وهو يحاول أن يرد زوجته إلى حضنه.. فلم يكتفوا بالضفيرة، وأخذوا الزوجة بالكامل .. بعد أن أصابوه إصابة ظل يعالج منها لسنوات وأصبح يعرج بصورة دائمة..
كان منظر سيد العصافيري بحجمه الضئيل وهو يرافق أم مريم فى تحركاتها منظرا يثير الضحك والأقاويل ..
البعض يظن أن هناك علاقة غير شرعية بينهم.. ولكن خيالهم يرفض هذا أحيانا وهم يقولون لأنفسهم: ما صورة هذه العلاقة بالضبط؟! وكيف تتم ؟!
هذا ما ظل يشغل تفكير الناس لسنوات عديدة فى تلك المنطقة الشعبية ..
ولكن الحقيقة الواضحة أن أم مريم كانت ترتاح للعصافيري، تجمعهم أزمة واحدة .. أزمة أرواح ذهبت بلا عودة.. أزمة ضمير أمة مات ضميرها..
سيد لم يكن اسمه العصافيري، ولكن لأنه افتتح محل للعصافير فى تلك المنطقة الشعبية، وبسبب حجمه الضئيل؛ اصطلح الناس على تسميته بهذا الاسم ..
ربما دار بأحلامه الكثير، ولكن لم يكن هذا الكثير يكفيه..فقد خلق ليحلم .. غابت زوجته لسنوات أصبح عدها أمرًا مستعصيًا على عقله.. ولكنه ما زال يحلم بها، ويراها كما هي ست الحسن والجمال..
وكان من المستحيل أن تتوقف أحلامه فى طريق معروف .. ربما الشيء الوحيد الذي لم يحلم به هو ارتباطه بأم مريم ..
وبرغم هذا ظل هذا حلم للكثيرين .. والبعض تصور منظرهم فى كوشة الفرح .. والبعض تصور أم مريم وهي تحمله وترميه على السرير وتبرك عليه ،وهو يرتجف من ضخامتها المفزعة ..
بغتة حدث شيء لم يتصوره أهل المنطقة أبدًا .. شيء لو دار بخيالهم لضحكوا ألف مرة ومرة..
صباحًا وفى يوم مشرق صحو على صور للعصافيري ملتصقة بحوائط المنطقة .. كأنما أصبح العصافيري هو الحلم الحقيقي فى كل أحلامه ..
بل من الصعب أن نصف حالة الذهول العام .. لقد رشح العصافيري نفسه فى مجلس الشعب ..
خير من يمثلكم العصافيري ..
الضحكات لم تنقطع .. واللمزات أصبحت شيئًا روتينيًا يمر تحت عينيه فى بساطة ..
وبغتة أيضًا وجدوا أم مريم تصاحبه فى جولاته وتنقلاته الدعائية .. بالطبع كان هذا يفوق الأحلام ..
فهو برغمه أم بغير رغمه .. صورة لا تتكرر فى الحياة ..
من العادة أن يفوز بالانتخابات شخص ثابت لا يتغير منذ سنوات..
أثناء الحملة يوزع سكر وشاي وبطاطين على الناس وينتظرون الانتخابات أحيانا.. لهذا السبب، فهي ترفع ناس وتهبط من ناس..
ولكن ماذا سيقدم العصافيري لهم .. لاشيء.. لو باع محله بعصافيره بجسده هو شخصيًا لن يقدم للناس شيئًا هنا..
الشباب والكبار اتفقوا على أمر واحد.. لقد جن الرجل .. جن بكل تأكيد،
ولكنه ظل يتنقل بينهم .. كانت وعوده بسيطة جدًا.. أنه يعدهم برجوع الأحلام.. برجوع الأحلام للجميع ..
ولكن هل رجوع الأحلام يكفي؛ ليفوز شخص مثله فى مجلس الشعب ..
وكيف تكون صورته فى المجلس .. وهل سيرتدي بذلة .. وهل سترافقه أم مريم إلى باب المجلس؛ لتعود به ..
أشياء وأشياء، خيالات مجنونة.. وغير مجنونة ..
بعض الهلاوس .. وبعض الجنون قد يكسبان الحياة طعمًا جديدًا..
وبدأت فئة من شباب المنطقة يلتفون حوله بغرض الضحك ونهاية المسرحية..
ولكن الحقيقة الواضحة أنه جن .. هذا ما كان يدور ،حتى فى خيال من يلتفون معه، ولكنهم أعجبوا باللعبة ..
مرت أيام وأصبح كثيرون يرغبون فى الالتفاف حول العصافيري .. حتى أصبح الشيء أشبه بالمسرحية الهزلية..
ولكنها مستمرة .. فى بداية الأمر ظن العضو الثابت أنها حماقة .. ولكن بعد فترة وجد أن الكثيرين يلتفون حول العصافيري بالفعل .. بل بعضهم صوره على الموبيل، وبدءوا يرسلون الرسائل لبعض فى تحركاته وكلماته وحتى إيماءاته.. وأم مريم تلصق به كظله؛ كأنها تحميه من خطر الأحلام المجنونة ..
بدأت بعض المشاكسات تدور فى الجو .. الرجل الثابت فى المجلس بدأ يستشعر بالخطر .. بل بدأ يرسل أعوانه؛ ليفرقوا الناس من حول سيد.. ولكن الأمر تفاقم.. الناس ترغب فى الضحك ويزيد التفافهم ..
وأم مريم شيء صعب، لسانها يحميه من بعض الألفاظ؛ فهي قاموس متنقل من أروع كلمات السباب فى تاريخ البشرية ..
كان الأمر برغم كل حماقته دعوة للأحلام ..أنه لا يعدهم بشيء ولا يوفر لهم شيئًا ،ولكنه أصبح حلاً لفراغ الشباب ولكثير من العاطلين..
وبدأ الأمر يقلق ويقلق ..
وحدث مفاجأة أخرى غريبة .. لقد اختفت أم مريم ..
وبدأ الناس يبتعدون ويعودون .. يبتعدون لأيام .. ثم يعودون للعبة التي أصبحت جزءًا من يومهم الطبيعي .. والبعض تمنى أن تطول اللعبة للأبد.. وأن تظل الانتخابات لا نهائية ..
ولكن سيد بعرجه المعروف ظل يتحرك بحثًا عن أم مريم .. نسى الانتخابات، والناس.. وظن أنها هي الأخرى اختطفت ولا سبيل لرجوعها.. بعض الألسنة قالت له: إن هذا حقيقي ويجب أن يتنازل للرجل المعروف..
اختفت الأحلام مرة أخرى من عقله .. اختفت لمدة طويلة وهو يدور يبحث عن أم مريم ..
ولكن المدهش حقًا يوم الانتخابات ..
لقد فاز سيد العصافيري ..فاز برغم التزوير للأصوات ..
لا يعلم أحد كيف فاز..
ولكنه ما حدث فعلا ..
ولكنه لم ينشغل بفوزه .. وظل يدور فى الشوارع بحثًا عن امرأة بدينة ضخمة اسمها أم مريم ..
وظلت الأحلام تهرب وتهرب
وفجأة ولمدة أسابيع اختفى العصافيري، وترك محله مغلقًا .. والعصافير محبوسة خلف الأقفاص تبغي الخلاص ..
الناس قالت :إن العصافير تموت بالداخل ..
البعض حزن .. والبعض قرر أن يكسر باب المحل.
ولكن كيف لهم أن يكسروا باب محل عضو فى مجلس الشعب ..
وخنقوا الفكرة ..
بعد شهور .. فوجئوا بأم مريم تدخل الحارة وهي تعرج فى مشيتها ..
كانت تدخل كأنها تشق طريقًا لها فى الحياة ..
زادت الأسئلة ..
والنهاية الغبية للأسئلة، إن عربة ضربتها ،وكانت محجوزة فى المستشفى ..
أم مريم سألت عن سيد، وعندما عرفت أنه اختفى والعصافير تموت بالداخل ..
كسرت باب المحل..
ودخلت ..
ولكنها وجدت العصافير ميتة فى أقفاصها .. وقد ماتت عطشًا ، وجوعًا ..
وفى أحد الأقفاص كان هناك عصفور صغير يقاوم الموت.. لم تعرف كيف نجا ؟!.. ولكنها سقته وأطعمته..
وفتحت باب القفص له؛ ليطير..
ولكنه لليوم يقف على باب قفصه؛ كأنه ينتظر عودة العصافيري .
وأم مريم تقف على باب المحل ..
والناس ملتفون حول الأقفاص الفارغة ..
وعقولهم تبحث عن سر ..
سر أحلام العصافيري

This entry was posted on 7:49 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

4 التعليقات

دائماً للقصص وحي خاص لربما يدمينا ولرمبا يوقظنا من سبات عميق لكن في كل الأحوال هو نحن بكل متناقضاتنا ..أبدعت سلم قلمك
أدعوك لزيارة مدونتي المتواضعة صبارة .وموقع فريقي الأدبي (مبدعون)
نجوى

أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

الف شكر عزيزتي نجوي
شرفتيني بالمرور
خالص تحياتي لمرورك العذب
وخالص التحايا

إرسال تعليق