طفل بأربعة محركات  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

..أجلس في مكاني المعتاد وقد وضعت بعض أوراق أمامي؛ أحاول أن أسطر قصة ما.. تخاصمني الكتابة هذه الأيام وتهرب منى دون سبب سوى الملل ، نشرات الأخبار ، ورفع الدعم ، وحديد عز ، وطن الاسمنت الذي سيصل إلى 400 جنيه ، أحاول جديًا البحث عن فكرة جديدة للكتابة،كل شيء لا يمت للواقع بصلة- حتى أنا تقريبا- أشعر أنني خارج الواقع هذا ، يأتي صبي المقهى ليضع أمامي كوب الشاي المعتاد .. أقلب الشاي وأنا أقلب عينيّ في الطريق .. لا أعرف لماذا الشغف تحديدًا بهؤلاء.. ولكنني دومًا شغوف بهم، بأطفال الشوارع.. بداخل كل منهم حكاية خاصة يجب أن أعرفها.. لا يتشابهون برغم أن المعظم يتسول وتكون علبة المناديل أو باكو البخور مجرد حجة؛ ليرق قلبك عليهم .. أحيانا هناك ما يجذب ناظري وهناك من أنفر من منظرهم .. لا أعرف هل النفور منهم أم من أهاليهم.. ولكن ذاك الطفل مختلف بالنسبة لي .. طفل يتجاوز العامين بصعوبة .. مكوك متحرك في الشارع .. أراقبه بشغف المحارب، وأنا أراه يتعلق بيد أخته التي تكبره بعدة أعوام.. الطفل منظره يدعو للاهتمام به بالتأكيد .. ملامح فارس، ترتسم على وجه طفل غادر مرحلة الحبو منذ قليل؛ ليكتسب فجأة قدرة رهيبة على الجري.. تلاحقه عيناي كترمومتر يقيس حرارة الشارع مع تموجاته المستمرة .. يشبه في حركته موج البحر الثائر يرتطم بالمارة .. ويتعلق بملابسهم .. البعض يعطف عليه يضع جنيه أو نصف في يده.. يجري مسرعًا إلى البقال ، يعطيه النصف جنيه في يده ويشير إلى الثلاجة .. يهز البقال رأسه أن لا .. ويعيد للطفل النصف جنيه .. يأخذه الطفل بين يديه، ويسمر عينيه الصغيرتين عليه، وبفم مفتوح يهمهم، فلم يتعلم الكلام بعد.. تخرج همهمة عجيبة مع تبرم عجيب وهو يرمي النصف جنيه للشارع .. أبحث بعيني عن أخته أجدها تلاحق المارة في مكان آخر.. شيء من الجنون يحدث بداخلي .. أحاسيس متناقضة وغريبة.. كثيرون يحلمون بظفر طفل كهذا.. لا تكل حركته مستمر في تموجاته عبر الطريق .. يراقص المارة ويراقصونه .. تتعلق عيناه بطفل آخر محمول في عربة أطفال.. ويهمهم له .. يعيد أحد المارة النصف جنيه إلى الطفل ويضعه في عبه .. يشلح الطفل بنطلونه ، ويعبث بداخله ؛حتى يخرج النصف جنيه من تحت البلوفر المتسخ ، ويرميه للشارع مرة أخرى .. وكأن هذا الطفل اكتشف بغتة أن لا قيمة لهذا المبلغ ما لم يلبي احتياجاته.. بداخلي أدرك أن هذا الطفل مصيره الموت، وقريبًا لن أراه في ذلك المكان.. مع تلك السرعة الفائقة للعربات مع سرعته هو، وكأن قدميه اكتسبت محركات أخرى لها.. وكأنه يقيس الأرض بسرعته أو أنها ستتوقف عن التحرك أن ظل ثابتًا في مكانه.. يراه أحد المارة وهو يتحرك هكذا، يسأل عن أهله ،وهو يرفعه من البلوفر كدمية صغيرة، ولكنه يرفعه بتعفف، وكأنه لا يطيق رائحته .. يشتم الرجل ويسب وهو يضع الطفل على الطوار وهو يتمتم .. أين أهله ..يأتي صديقي يجلس بقربي يتطلع لي وأنا أراقب الطفل.. يقول في نفسه : ما زلتَ على جنونك .. أنظر في عيني صديقي أقرأ ما يدور .. يهز رأسه بتحية ويتمتم بالسلام ، ويطلب من صبي المقهى إحضار فنجان ثقيل من البن .. يراقب حركة عينيّ خلف الصغير، وقد رفعه أحد المارة على سقف عربة واقفة، فظل فوقها واقفا بشموخ غريب، ونظرة عينيه تقيس مسافة بعده عن الأرض وكأنه سيقذف بنفسه.. إحساس غريب بداخلي وأنا أشاهد ما يجري، وكأنه ترتيب عجيب للقدر.. بداخلي يستمر إحساس أن الموت يرفرف الآن فوق رأس الطفل.. لا أعرف لماذا .. ولكنها العادة أن أضع النهاية المتوقعة للأحداث.. غريب تعلقي به ومتابعته بهذه الدرجة.. يرشف صديقي من فنجانه وهو يحدث نفسه وكأنه يحدثني : العيل في البيت عندي تغطيه بميت بطانية ، وتخاف عليه من الهواء الطاير ، ورغم كدة بيجيله عيا وندوخ بيه على الدكاترة .. شوف ابن المرة ده .. ولا هو هنا ..يبدأ الطفل في الهمهمة للمارة .. يشاهده صبي المقهى، ينزله من على سقف العربة للشارع.. يستمر الطفل في الحركة مرة أخرى .. وصبي المقهى يزعق لأخته أن تحمله من هنا وهو يلعن سلسفين جدودها بأفظع الشتائم ..تقترب الطفلة من أخيها تحمله وتمضي.. لا تمر دقائق حتى تراه عائدا لوحده.. وقدماه تتحركان بسرعة عجيبة دون اتجاه ..اليوم أشعر أن هناك شيئًا يخفيه القدر للطفل، لا أعلم تحديدًا ما هو.. ولكن يقينًا غريبًا يقول لي سيموت هذا الطفل اليوم..يبدأ زبائن المقهى في طرد الصغير وهو يتحرك بين الكراسي ..يهمهم بلا كلام ويجري ، ثم يعود مرة أخرى .. هذه المرة قلبي يتراقص بين ضلوعي .. فحركة الطفل غريبة وأسرع من كل مرة، وكأنه يمر بمرحلة ما من النشوة.. يهبط الطوار بسرعة عجيبة ..يجري محاذيًا للرصيف، ثم يعود للف حول المقهى.. ويرجع للجري مرة أخرى .. صديقي يلاحظ انشغالي بالمتابعة ،يتركني لحالي .. وهو يهز رأسه متمتمًا: يا الله! ..يبدأ صبي المقهى يزعق على أخته مرة أخرى؛ لتأخذه..البنت منشغلة بالجري وراء الماشيين ..فجأة أشاهد الطفل يجري بسرعة غير طبيعية ويترك محاذاته للرصيف لمنتصف الشارع، الذي يلتهب بالسيارات المسرعة.. يقف صديقي نصف وقفة ، وأهم أنا بالوقوف .. يعود الصغير للرصيف مرة أخرى ، وصبي المقهى يصرخ في أخته : الواد هيموت يا بنت الكلاب .. تهز البنت رأسها ،وتبتعد وراء شخص عابر ، الصورة تزداد غموضا بداخلي .. أحمد الله ، لأن الصغير هدأ قليلا، وعاد ليجلس على الطوار .. بعد فترة أرفع كوب الشاي إلى فمي .. أرى صديقي يهب فزعًا، وهو يرمي كرسيه جانبا قافزًا عبر المائدة، وأرى الطفل في منتصف الشارع، بينما أتوبيس نقل عام ضخم يأتي بسرعته.. الصرخة تقف في حلقي مع زيادة ضربات قلبي وهاجسي الداخلي بموته شبه محقق .. تمر الثواني كأنها أيام ، وأري صديقي قد رفع الطفل بيد واحدة إلى أعلى مبتعدًا به عن سكة الأتوبيس ..وهو يصرخ : يا ولا د الكلب .. تمر وهلة يعود صديقي بالطفل، يضعه فوق مائدتنا، وهو ينظر للصغير الذي يهمهم دون فهم.. يحتقن وجه صديقي بعنف .. يبحث بعينيه عن أخته .. يهب مرة أخرى وهو يرفع الطفل بين يديه ويجري ناحيتها.. يضع الصغير على الأرض وهو يصرخ فيها: يا بنت المرة.... متسبيش الواد من أيدك هيموت ..تخاف البنت من منظره، وهي تتناول أخاها، يرفع صديقي يده في الهواء وهو يهبط بصفعة قوية على وجهها صارخا: يا بنت....تصرخ الفتاة بعنف ويلتف الجميع لصرختها، وهي تبكي وتصرخ : أها اعملوا علينا بقى رجالة ..تصفعني الكلمة ، وتصفع الواقفين .. بينما يرجع صديقي لمكانه ، وكأنه تلقى ضربة من ملاكم محترف تصفعه بالمثل ..وعيناه تتابعان البنت التي حملت أخاها ومضت.. والكلمة ترفرف فوق الرءوس ، بينما البنت ما تزال تبكي ساحبة الطفل خلفها وهي تتمتم :- أها اعملوا علينا رجالة بقى ..

This entry was posted on 8:01 م . You can leave a response and follow any responses to this entry through the الاشتراك في: تعليقات الرسالة (Atom) .

0 التعليقات

إرسال تعليق