اختفاء سيدة العبوس..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

http://alcooool.jeeran.com/gb%5B1%5D.gif



لا أكذبك خبرا الآن أن كل ما سوف أطرحه عليك كله كذب، ولكنني مجبر يا ... على أن تصدقني إذا كنت تريد للافعال أن تستمر وللأقوال ان تتضح ..
عبر جزيرة في قلب محيط عظيم ، لا ليست هذه الحقيقة .
عبر جسر يقطعه المارة في ضوء الليل ، وتفترش النجوم السماء ، كلا كذب .
عبرمخططات سرية لحكماء يحلمون أن يحكموا العالم ، مجرد افتراء .
عبر ليل بهيمي ترعى الأبل فيه ، في صحراء تظللها الرمال والريح ، هلوسة كاذب .
ليس أكثر صدقا من الكاذب أنا حين أقول كانت هي البداية .
هي عندما استيقظت صبيحة يوم ما ، وقد وجدت ابتسامة تحتل وجهها بلا أدني خوف من غد ، ودون تردد حاولت أن تكبح تلك الابتسامة وأن تطلق عبوسها الدائم المشهورة به ، والذي أعطاها اللقب بين النساء بسيدة العبوس الأولى .
كل هذا راح صبيحة ذلك اليوم عندما ضبطت نفسها متلبسة بجريمة الضحك .
قال أطفال الحي والمنطقة إن سيدة العبوس قد أصابها الخبل أنها اليوم تضحك وباستمرار رهيب .
حاولت أن تختفي على العيون حتّى لا يتسرب خبر ضحكها بين الناس ، وتضيع تلك التكشيرة المعروفة والمحفوظة في الصدور منذ سنوات عديدة .
لا تذكر متى بالضبط أخذت التكشيرة مكانها المميز في وجهها ، كل ما تعرفه وتدركه بحق أنها يوما ما ، أصبحت كمثل هذا اليوم وقد تقطب جبينها ورسمت شفاهها صورة حزينة على الوجه .
حتى عندما ضافت السنوات على الأطفال تعطي لكل واحد منهم عمرا فوق عمره ، وتسربت السنون لتحملهم بعبء الحياة ظلت هي على شكلها دون تغيير ، كل شيء يمضي إلا تكشيرتها وعبوسها اليومي .. الشمس تشرق لتغرب وعبوسها مستمر ، الأطفال يمرحون ويتقلبون في شواطىء النهر وهي تلقف ضحكاتهم بوجه عبوس ، يدخل التلفزيون المدينة وتنتشر المسرحيات الهزلية بين الناس ، وتظل هي دوما عبوس .
كل شيء يمضي بطريقته كيفما أراد ، الضحك حولها يتزايد يوما بعد يوم وهي تلبس ثوب الحزن دون مآتم جديدة، يوم أن مات زوجها كمدا وحزنا لأنه لم ير في حياته لمع ابتسامة على شفتيها أدركت أن الأمر فوق طاقتها وخلف أي احتمال للتزوير ، بابتسامة زائفة .
اليوم تختفي عن الرقباء والمتسللين خلفها لتخفي تلك الأبتسامة الرائقة التي انتشرت في وجهها ، والتي ازعجتها بقدر ما أزعجها تسرب الضحكات من بين شفتيها .
قال الأطفال الذين لمحوا ابتسامتها إن سر الأمر كله هناك خلف ذلك الرجل الذي قدم المدينة متأخرا خمسين عاما وهو يحمل على ظهره صندوقا قديما متهالكا ، به خيال ظل ، وبه اراجوازات ، وبه أكثر من هذا دمى تحمل ابتسامات ، والأكيد أنه يحمل ذلك الصندوق القديم الذي كان يعرف باسم صندوق الدنيا ، وأن سيدة العبوس ليلة أمس عندما كانت عائدة من زيارتها اليومية للمقابر ، رأتها والأطفال حوله يتشقلبون ويقومون بحركات هزلية وهم يضحكون على رجل جاء متأخرا خمسين سنة على الأقل .. وهجم الأطفال واحدا أثر الآخر في محاولة لاكتشاف سر الصندوق العجيب وارتمت عيونهم عليه وأخذوا يحدقون دهشا مما يعرض بداخل الصندوق فما رأوه كان يفوق خيالاتهم ونشرات الأخبار والقنوات المفتوحة والمشفرة . كانت شيئا جديدا قديما لا تستطيع أن تعطي له تمييزا حقيقيا ، ولكن الغريب في الحدث أنه اكسب الأطفال شكلا جديدا وقد راحت ابتسامتهم تختفي ويحل محلها صمت غريب ، سيدة العبوس فقط من اتسعت عيناه وأخفت ابتسامة حاولت التسلل إلى شفتيها وهي تجري في اتجاه بيتها .
صباحا اختلفت الأشياء ، عندما انتشر خبر ضحكات سيدة العبوس التي راحت تتردد في الحيّ كله . وذهب كبراؤه إلى أن الأمر كله مستحيل ، فأطفالهم أصبحوا على غير ملامحهم المعهودة ، وماتت ابتسامتهم في الصدور واختنقت عن الشفاه . حتى عندما حاول الأهل إعادة إذاعة برنامج هزلي مضحك كانت الدموع تأخذ طريقها في عيون شباب ورجال الحيّ ، ومع ازدياد الدموع بصورة أصبحت مرئية ، حيث رأى الرائي أيا كان هو مصير أطفاله وأبنائه ، حاولوا أن يبحثوا عن الرجل بصندوقه العجيب وعن السيدة العجوز عابسة الوجه ، ولكن الأمر أصبح مستحيلا أيضا عندما انتشرت التكشيرة على وجه نساء الحيّ بلا استثناء من القاعدة . لم يتبق سوى الوصول إلى المرأة مهما كان الأمر ، قلبت الوجه في الوجوه ، وشدد الرجال على زوجاتهم أن يخرجن مكشوفات الوجه حتى يستطيعوا أن يميزوا بينهن والمرأة العابسة القديمة ، ولكن الأمر تخطى هذا بمراحل متنوعة ، ومتناقضة حيث أصبح التميز بين الزوجات شيئا مستحيلا ، فأهدت الأزواج إلى أن تضع كل سيدة أو زوجة شارة خاصة عليها اسم زوجها حتى لا يحدث أخطاء أخرى هم في غنى عنها الآن يكفي حالة الحزن الذي بدأ يزداد يوما بعد يوم منذ ظهور واختفاء الرجل بصندوقه العجيب ، المسرحيات الهزلية ، والقنوات المشفرة ، والمفتوحة لم تهد الجميع إلى أي شيء سوى الصمت .
وفي المساء تنتشر ضحكة بين القرية ضحكة عالية مرتفعة ، يحاول من يحاول أن يمسك صاحبتها ولكنها تختفي بطريقة ما زالوا يجهلونها ، ليلا تظهر فقط وتقطع شوارع الحي جريا ، كلهم شاهدوها ،ويشاهدونها ليلا ، ولكنهم للآن لم يستطيعوا أن يضعوا أيديهم عليها ، بينما راح الأطفال يكبرون يوما عن يوم دون أن يشعروا وأصبح الحي كله يمضي إلى الخرس فتكفي أن ترى وجه جارك لتشيح بوجهك عنه ، عابسا بعبوس .
قال البعض:إن هناك صندوقا آخر مدفونا في أعماق أحد البيوت به الحل.
صباحا كانوا يحفرون، ويحفرون، وتنتشر أكوام الرمل وتعصف الرياح بها..
وتمرّ الأيام والحفر في استمرار ودوام، والليل يأتي والحفر لا يتوقف، والريح تمضي.
وصباحا انتبهوا للأمر عندما وقف كل سكان الحي على أطرافه، يحاولون أن يلمحوا نهايتها، ولكن لم يصادفهم سوى بيوت مخربة، وأشلاء بيوت، ورمال تمتد وتمتد..وصباحا يرحلون، يحملون شبح الحزن على أكتافهم ويرحلون.
وتنتشر الأسطورة بينهم، إن بعضهم رأى سيدة العبوس ليلا مصاحبة لصاحب صندوق الدنيا، يمضيان ويضحكان سويا مغادرين الحيّ أو ما كان حيّا في يوم ما.

بيت على الطريق  

Posted by: محمد إبراهيم محروس


http://www.muhandes.net/ImgArsh/ejaz/ejaz4-1.jpg



البيت ، طرقاته تمتد أمامي ، ظل شجرة يرتمي على الأرض وكأنه يحفر ظلا آخر له ، صوت سكون ، ملامح لزمن مضى تفرش الممر الممتد من أول الحوش إلى آخر الوسعاية ، ملمح غريب يطفق في ذاكرتي ، ذكريات أيام خلت أو ما تزال في طريقها للرحيل ، نسمة باردة تداعب وجهي وأنا أدلف للداخل ، محملا بزخم من الذكريات ، البيت الذي رأى طفولتي ، وملامح شقاوتي ،وأول حب عذري ،وأول قبلة تحت هذه الشجرة التي تريد أن تنقض ، أخاف من صوت خطواتي التي تسحبني للتفكير، أي شيء آخر يجعلني أندهش غير الخلاء والخواء الممتد عبر ردهات وشرفات البيت ، وكأنه لفظ أحياءه ليعيشوا هوس الحياة بعيدا عنه ، غادرته وأنا متلمس خطوات النجاة مسافرا ، لم يغب عن ذاكرتي قط ، ولم تغب ذاكرتي عنه .. أدخل، أرى الصالة أمامي ، مغطاة بسحب من التراب ،أفتح الشباك فتتسلل نتف بسيطة من ألق الصباح ، أرى حبيبات كالرمل تدخل حاملة معها ضوءًا خفيفًا ، أقف هناك في وسط الصالة ، ألمح صورتها المعلقة ، أقترب أجد بجانبها شخصيات عديدة ، أنا ، وهي وأبي وجدي ، وإطار يحددنا ، أتذكر شكل المصور وهو يلتقط الصورة وفرحة جدي بتكبيرها ، أتذكر ضحكة أبي المتكلفة يومها ، عندما غطس الرجل برأسه أسفل قطعة من القماش ، تشبه ملاءة سوداء ممزقة ، ضحكة ، ياللا ، خلاص .. ثلاث كلمات، وانتقلنا إلى خانة صورة في إطار، أقرب الصورة من بين يدي، وأخلعها من على الحائط.. أتذكر مجيئي الآن وسببه، إنها الصورة.. وأخذت عيناي تلحان بالدموع علي ، وأنا أهمس لنفسي ، بيت ،مجرد بيت ، بينما يتمثل لي جدي ضاحكا : خد كل تفاح ..

أعود لأغلق باب البيت، وأنا أحمل صورة لهم جميعا، وأنا بينهم، والآن علي أن أكبرها وأضعها في شقتي الجديدة، ربما تجلب لي الذكريات...

دروب مريم..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

The image “http://www.doroob.com/wp-content/images/userimages/upload/2009/02/suad.jpg” cannot be displayed, because it contains errors.


تقف أمام بيتك تتأمل عن يمينك وعن يسارك ، ترى واجهات المحلات المغلقة والأخرى التي على وشك أن تغلق أبوابها ، يأتيك صقيع المساء كلسعات الإبر ، تتأمل وجه السماء وتتوقع أن تهطل بمزيد من المياه ، تعشق المشي عبر الشوارع التي غسلتها الأمطار ، رائحة الجو المشبعة بالرطوبة تأسرك ، تمتص الهواء بفتحتي أنفك وكأنك تعبئ رئتيك بعبير الحياة ، تبدأ في المشي بمحاذاة الرصيف ، تقفز فوق أحجار وضعها الناس ليمروا بين البيوت الواطئة في ذلك الحي المغرق في بؤسه ، تتذكر مريم وموعدك معها ، تدرك أن الوقت ليلا ، وأن البرودة غير محتملة بينما يلم المقهى كراسيه للداخل ويلف المعلم المكان بسرادق من المشمع ليحمي زبائنه القليلين من هجمات البرد ، تريد أن تتوقف دقائق لتعطي لنفسك فرصة للتأمل ، تريد أن تدخل للمقهى ربما جذبتك أنفاس الشيشة إلى خيال ترغبه الآن ، تشعر بالخيال يهرب مبتعدا بينما تأتي الحقيقة مؤلمة وحارقة .. مريم ..
حلمك الذهبي في عصر ضاعت فيه الأحلام، موعدك المقدس معها منذ ثلاثة شهور عندما تغرق شوارع الحي في الظلام، ولا يكون هناك غير المتسكعين، والهاربين مثلك من الوهم.. تتذكر أن كل شيء بدأ معك منذ سنوات بعيدة طفولة وصبا، حب ينمو بطول الأيام وتسارعها، حب يغلف قلبك بنور غريب لا تدري من أين يبدأ أو من أين ينتهي.. مريم وحيدة أبيها .. ذلك الشيخ إمام المسجد، والذي كان يجذبك صوته للترتيل خلفه في خشوع هل يرضى عن ما تفعله بابنته الآن، هل يغفر لك؟!.. ولكن ماذا كان بيدك غير هذا لتفعله.. تساءل نفسك وتحاكمها ، منذ ثلاث سنوات عقدت قرانك على مريم ، في فرح شعبي تراقصت حولك أنغام الحب ، منذ ثلاث سنوات وأنت تبحث عن شقة مثل بحار يبحث عن قارة أخرى .. مثلك والجنون يفترش عقلك من الأسعار ومن الارتفاع الرهيب في كل شيء ، تلعن الحديد ومن يحتكره ، تلعن الشوارع التي ضاقت بأهلها ، لا تتذكر سوى مريم وحنين رهيب يجرفك إليها ، مريم التي تعيش مع عمتها التي أصرت أن تأتي لتعيش معها ربما هربا من مكان أشد فقرا أو طمعا في شقة أخيها .. المطر يبدأ معلنا استمرار قسوة المساء .. صوت يأتي إليك من داخل نفسك يدعوك للتمهل ربما تكون عمتها ما زالت ساهرة.. تتأمل يديك اللتين ابيضتا من شدة الصقيع ، وتضعها في جيبك لتصطدم إحداهما بقطرة " البريزولين " التي تحتفظ بها دوما في جيبك تحسبا لوجع العين الذي يصادفك مرارا .. تقف فجأة شاعرا ببرودة مهيبة ، تتصور عمك الشيخ أبا مريم واقفا ينتظرك على باب البيت ، يمنعك من الدخول منعا للشوشرة وكلام الناس ، تتساءل وهل سينتهي الناس عن الكلام يوما ما؟! .. تتذكر صبيحة التي تحاول أن تحتك بك دوما في دخولك وخروجك على سلم العمارة والتي دوما تحاول أن تلصق جسدها بجسدك أثناء حديث عابر، بينما تخفي أنت وجهك في الأرض خوفا من خطأ ربما يجذبك نحوه جوع بشري.. تمشي ببطء .. تقترب الأفكار وتهرب من خيالك .. تتذكر الأمر كله وكأنها متاهة تدور في عقلك ، ترفع يديك تصد عن عينيك شبح الشيخ ، وصوته الجياش يأتي عبر ذاكرتك مسبحا ، ومرتلا ..
تهمل كل الخطوات المبعثرة للبشر على صفحات الطريق، تتأمل حياتك نفسها، وتتمنى أن تكون العمة نائمة، ومتاهة غريبة تأخذك وكأنما تدور بك الأرض في رحى معركة ذهنية رهيبة، الضمير..
كم يثقلك ضميرك الآن ، وكم يؤلمك ، تشعر بالخيانة بداخلك ، تقارن بين حالك الآن وحالك منذ شهور طويلة وأنت تدور في متاهة مريم ، وطلباتها ، وصوت أبيها الذي يأتي هادئا : هل من جديد ؟
تهز رأسك بضعف أمامه : ما زلت أبحث عن شقة ، وأفكر أن أجرب برنامج رمضان الذي يمنح شقق للعرسان .
يضحك الشيخ ويطمئنك أن الحياة أبسط من هذا ، وأنك في وقت ما ستصل لما تريد ، دون هبات من أحد ، وخصوصا لو كان هذا الشخص ..
تضحك من نفسك وأنت تضرب المياه بطرف حذائك مطرطشا على بنطلونك ..
يقترب بيت مريم منك وكأنه هو من يسير إليك وليس العكس ، تتأمل العمارة في هذا الوقت وتطمئن نفسك أن الشارع خال من البشر ، تهمس لنفسك بأدعية ، تتذكر كلمات مريم :صاحب العمارة يريد طردنا ، لا لن أتزوج قبل أن تمر سنة على موت أبي ..
متاهة مريم تجذبك مرة أخرى .. إصرارها ،حماستها، شغفها بالحياة، قصة الحب الطويلة، شمس الخريف، وقمر الشتاء، وكراسي الكورنيش التي تشهد على مسيرتكما في الحياة.. العشق الذي يطفح على وجهك ، تلامس الأيدي في لحظات وجلة ، خفرها ، همسها ، ضربات قلبها المتسارعة عندما تخطف منها قبلة عارضة ، شوق الأيام الذي يقتلك ويقتلها ، الخوف المرابط في الأحشاء من الزمن .. ذكريات طويلة وأنت تدلف بجسدك بسرعة من باب العمارة، ورنة المحمول إليها، وخطواتها المتئدة إلى الباب وهي تفتحه في وجل، هامسة: أتأخرت؟!
- المطر..
تسحبك من يدك إلى غرفتها، تميل شفتيك إلى وجنيتها تخطف قبلة سريعة، تضحك وهي تضع يدها لتمنع علو الضحكة
- عمتي نائمة !
تدلفا سويا لغرفتها، تغلقان الباب بالمفتاح، تتأملها، تتأملك تمسح قطرات المطر عن وجهك بشفتيها، تغرقان معا في الحب..والربيع يشرق بداخلك ، تكتم حرمانها وعواطفها خوفا من افتضاح الأمر ..
تشعر بالسرقة، ينتهي الأمر بينكما وهي تهمس: خائفة لو علم صاحب البيت لطردنا منه.
يأتي صوتك هامسا : أنتِ زوجتي ..
يأتي صوتها في ضعف : ولكننا أمام الناس لم نزف بعد ، ما زلنا في حكم المخطوبين ..
تضرب جبينك بيدك في قسوة، تخرج بعد قليل متسللا كما جئت.. ترفع رأسك للسماء وترى مزيدا من السحب، بينما تتمثل لك صورة صبيحة وهي تحتك بك ، وصوت الشيخ ، وكلام الناس ، ودروب مريم تمتد أمامك بلا نهاية ..

سلام يا صحبي..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس




http://photos.photosig.com/photos/59/47/1594759-f66c45d8f0065d31.jpg

معرفش ليه أنا دون البشر بيحصل معايا كدة ، ليه الحياة معنداني ومخلية كل حاجة سودا في وشي كل شيء حلو في حياتي فجأة بيقلب لغم وحزن ومصايب سودا ، ليه كل حد يكون جوايا بجد فجأة يروح يختفي يموت ، العيب في مين في أنا ..أنا اللي بنسى الناس اللي بحبهم فجأة فبيموتوا .. زمان كنت فكر اني شخص غريب لما أحب حد يموت أنساه أسقطه من ذاكرتي يقوم يموت ، وكتير بنيت أعتقاد شخصي أني عايش جو كتاب مقفول بشخصياته بناسه بشوارعه بكل حاجة وحشة وحلوة والحياة تلف تنغص زي ما تنغص في الواحد ، وفي الآخر أنسى الناس لفترة مش بمزاجي لكن الدنيا بتلف بينا لوحدها يجري أيه يعني لو وقفت شوية عن اللف بي ، لو حسيت لفترة أني طبيعي زي البشر يجرى أيه للدنيا لو خدت نفسها شوية معايا لية الجحيم ده .. ليه الحياة كلها كدة ، كلمة ليه حتى بقت تقيلة وبايخة .. الناس .. الناس حتى كلمة الناس بقت فاضية عاملة زيي الاسطوانة اللي دايرة والصوت طالع مغشوش ومتعكر ، أني أفرح في يوم وأزعل في ثانية واحدة قمة عبقرية الحياة معايا.. أني أحضن صحبي بشوق وأبص في وشه يقولي تصور ماتت .. لا مش عايز أتصور أنها ماتت .. صعب أتصور أنها ماتت ..
ماتت .. الكلام كله بيبوظ والحروف تقتل نفسها والكون يغمق ويفتح والصورة تبيض وتزرق ، والدنيا تغفلق في وشي .. يعني أيه ماتت .. وليه.. يجيي صوته وهو بيطبطب على دمعتي ماهو إنت كنت نسيتها من زمان ياعم .. مالك ..
مالي أيه وزفتي أيه .. ومين أداك الحق تقول أني نسيتها ولا لأ .. ومين خلاك تقولي أصلا أنها ماتت النهاردة .. يا أخي ما أنت بقالك أكتر من شهرين غايب عن وشي .. ولما حد يسألني أقول مراته لحمت باب الشقة عشان مينزلش .. وأنا بحضنك النهاردة وبقولك كفارة ياعم أخيرا ظهرت مراتك متربسة عليك .. تقوم ببساطة تقولي لأ.. أصلي كنت عيان شوية ونزلت عشان عزاها .. عشان ماتت ..
ياعم مكنتش تنزل .. .. مكنتش تقولي .. متسبني عايش في فكرة أنها لسة عايشة ما أنت عارف أني حاولت أنساها من زمان وأني من يوم ما هي أتجوزت وأنا قولت خلاص خدت حكم براءة من شعلقتها في رقبتي العبيطة .. ليه ياعم كدة ..أنا ناقصك ما كفاية اللي حوليا.. يعني أيه يجلها سرطان ومعرفش .. يعني أيه تعرف وتخبي علي .. يعني أيه جوزها .. جوزها ميعرفهاش قدي محبهاش قدي ، هي متعرفوش زي ما كانت بتعرفي .. هي معشتش في أنفاسه في الهواء اللي بيلف حوليه الدنيا.. هي عاشت جوايا وعشت جواها .. بعدت عشان الشرف والناس والكلام والجواز .. حتى لو شفتها في شارع كنت بعدي من بعيد .. محولتش أسلم عليها لما قبلتها في يوم صدفة ولقتها مد أديها بالسلام .. كنت قولي يا جدع ما أنت ياما بتقول كلام فارغ ملوش لازمة قولي خلاص قربت تمشي .. خد بأيدها سلم عليها .. قولي أي حاجة يا عم الحاجة .. تسبني أتقتل ليه .. قولي تعبت .. متحملنيش ذنب عمري كله .. متحملنيش ذنب تختة واحدة شلتنا ، وكراسة واحدة جمعتنا .. متحملنيش ذنب سنين عشق ثانوي وإعدادي وابتدائي متحملنيش حلم الجواز والجامعة والخطوبة .. ليه يا عم مقولتليش ما أنت جارها وعارف أنك دايما بوصلة لي لما أحاول أتمحك فيك عشان تقولي كنت بتقول .. وكنت بتكسف منك أنت عارف ..صعب علي يا أخي أني أعترف أني عاشق متعودهاش يا كوتش .. ليه كدة يا أخي .. أحنا مش في فيلم عربي قديم وبايخ مش هروح لها المستشفي ولا هترمي في حضنها ، مش معقولة بعد ما بعدت السنين ده كلها هروح وأعمل فيها عماد حمدي .. خفت من أيه يا جدع جارها وصحبك معاك ورايحين تطمنوا عليها .. خفت من دموعي ما أنت عارف يا صحبي .. ما أنت عارف .. ليه كدة كان يجرى أيه يا عم الحاج لو ضحكت في وشها وأنا بسلم عليها يوميها .. أي حلم تاني هيجي في دنيا دلوقتي ..نسيت أيام مذكرتي ليك وليها نسيت مادة المحاسبة ، وكشاكيل الجامعة ، نسيت رحلتنا الطويلة وجرينا عشان نشوف شغل ، نسيت لما كنت أنا وانت نتشعلق فوق فوق الكوبري الجديد على القناة فرحنين بالشغل .. ونشوف الناس نمل تحتنا وتقولي لو وقعت دلوقتي تفتكر حد فينا ممكن يعيش ، ليه نسيت يا صحبي الجناين والخضرة وهي بتفرش الملاية وتحط لنا الأكل بعد ماتش كورة خايب بيني وبينك ، ليه نسيت جرينا وراء بعض أنا وهي على القناة ، ليه نسيت الحب اللي أتولد ومات عشان كل حاجة في حياتي حلوة لازمة تموت .. ليه ياعم نسيت .. أنا منستش .. ما أنت عارف كنت تيجي تقولي جابت محمد .. كنت بتيجي تقولي جابت دعاء .. ليه المرة ده مجتش تقولي جابت أي اسم واي حد .. ليه المرة دي جاي تقولي أنها ماتت .. ليه يا صحبي .. كنت أديني فرصة واحدة .. فرصة أقول لها معلش .. الدنيا كدة .. محدش بياخد غير نصيبه .. كنت أديني فرصة .. أقولها أزيك عاملة أيه .. ودول ولادك قطاقيط قوي وحلويين .. كنت أديني الفرصة ده يا صحبي .. أستخسرتها في ليه .. مش كدة .. مش كدة الدنيا معايا أنا .. ليه يا صحبي أنت كنت عارف .. عارف يعني أيه كنت عارف .. يعني تفتكر أني هعمل أيه دلوقتي .. هعيط دموعي هتكفي تفتكر .. تفتكر أني مشفهاش وهي ماشية وسايبة الدنيا ده سهلة .. تفتكر أنك لما ما قولتليش هي أستريحت أو أنا أستريحت .. ليه ياعم تعاقبني بالعقاب ده .. ما أنت عارف طبعي .. ليه .. ليه يا صحبي تحملني وزر ذنبين في يوم واحد .. ذنب أني مشفهاش وهي بتموت يبقى هي سابت ومشيت وأنت حكمت أني مقدرش أبص في وشك مرة تانية صعب أبص في وشك ومفتكرهاش ..هصرخ هزعق .. هعيط .. كل ده مش مشكلة قدام أني أخسرك دلوقتي وأنت عايش خسارة يا صحبي .. خسارة أني مش هقدر أسامحك أبدا .. خسارة وأنا بقولك النهاردة .. سلام .. سلام يا صحبي .. معدش ينفع أقولهالك تاني .. سلام يا صحبي .


على حدود وصف  

Posted by: محمد إبراهيم محروس








بدأ كل شيء كما يحق له أن يبدأ فعلا، الحياة، الموت، الترقب.

لحظات وتتهيأ ليّ الدنيا أنها دنيا ، وتبدو ليّ الأشياء على طبيعتها ، لا أعرف كيف أبدأ معك الحكاية ، وهل ستسمعني حتى أنهيها أم ستقف زاعقا في وجهي أن أكف عن الكلام دون فائدة ، اعتدت أن أثرثر مع نفسي ، أن أحكي ليّ كل ما حدث في يومي بطريقة أو بأخرى ، قد أحكي بصوت مسموع وأنا أمشي قاطعا شوارع مدينتي النائمة في هدوئها الأبدي الذي للآن لم يستطع أي تكاثف سكاني أن يقطعه ويمزقه ، فيظل الهدوء في ليلها هو حلمي الطويل.

التقيت اليوم بأديب ممن يحتفي بهم المجتمع الأدبي ويعلقون على رؤوسهم أقواس النصر،لا شك أن طبيعته أعجبتني،ولكنني دوما وبطريقتي التي تبدو دائما غير لافتة للأنظار أظل بعيدا عن مناطق تجمع الأدباء،أراهم بعين غير عينيّ ،أرى أن أمامهم الكثير ليتعلموا فنون الحكي والسرد،وأنا الذي أغزل خيوط الحكي بمهارة طفل يداعب ثدي أمه قبل لحظات تشبثه به،أعرف من أين يجب أن أبدأ أي حكاية ومتى يجب أن أتوقف عن سردها،ليس نوعا من الغرور بقدر ما هي هبة لا أعرف هل استحقها أما لا،وأدرك جيدا أنني سوف أموت دون أن ينتبه أحد أن أديبا مرّ من هنا،أو أن إرهاصة كاتب كان من الممكن أن يكون شيئا ما في المستقبل ؛قد راحت بسبب انزوائه الدائم وهدوئه المنغلق على نفسه،لا أريد أن أعاقب نفسي على جزء حقيقي منها،العصبية الدائمة التي تملكني عندما أرى من لا يستحق في مكان من يستحق،ليس أنا بكل تأكيد فأنا آخر شخص أفكر فيه،ولكن ما لفت نظري اليوم في لقائي بهذا الأديب الأريب -لو صح التعبير في فذلكته- أنه كان يهتم حقا بيّ ، يشعر بي وبوجودي الحقيقي وليس الجسدي،وكأن هناك إشارات متبادلة بيننا عبر فضاء المكان الذي جمعنا.

كانت تلتقي عيناي في عينيه،ويظل محدقا في عيني لبرهة دون الآخرين ربما شيء فيّ جذبه إليّ،ما هو تحديدا؟ لست أدري.. الجميع يجمع على أنني شخص مناسب لاستمرار الحدوتة بين يدي أبناء الأقاليم ، والبعض يرى أنني نواة تصلح لشجرة مثمرة،المشكلة في أنا،أرى أنني بعيد عن كل هذا..

مناقشة الرجل لروايته وكلماته كانت تحمل ليّ عنوانا أشد غموضا منه، تقريبا طاف الكرة الأرضية،تجول في بلاد الله كثيرا،رسم بقلمه خطواته عبر تلك البلاد،عندما أهداني روايته وتوقيعه خيب رجائي ،وهو يطلب منيّ في إلحاح غريب أن أرد عليه بعد قراءتها للأهمية،فما الذي فيّ ليس في الآخرين حتى يهتم بيّ،دخلت حلقة المناقشة صدفة وبطريقة لم أعرها أدنى اهتمام،كنت احتاج لشراء علبة سجائر؛ أحرقها في صمت بعد شهور من الإقلاع،كنت أحتاج لفترة من الاجتياح النفسي لنفسي ، كانت كلماته على الرواية بخطه تبدو ليّ منمقة ومزخرفة وهو يكتبها،ويكتب " ميله الالكتروني " مترجيا مني أن أرد عليه في أقرب فرصة .. من هذا الرجل.. لم أعرف اسمه من بداية الجلسة لأنني وصلت متأخرا؛ فلم أكن أعد العدة حقا للوصول،كل ثلاث أو أربع سنوات أذهب مرة واحدة لهذا التجمع؛بغرض واحد.. هل وصلوا فعلا لشيء جديد؟ هل خرج جيل آخر من الشعراء والأدباء ؟

قاطع ندوته بغتة كاتب أراه دوما أحمق، قال: لقد استمتعنا بك يا أستاذ وبكل حواراتك أرجو أن تستمتع أنت بنا بعض الشيء وتسمع منا بعض ما نكتب.

الرجل برغم أن الندوة كانت عنه وعن أدبه ،بأخلاق عالية،قال: بالطبع يسعدني هذا ..

وقفت وقتها امرأة راحت تغزل خيوط شعر لا أتابعه بقدر ما أتابع تأثيره على وجه الرجل،مال الأحمق الظريف بعدها وهو يشير لي: أنت اسمك بالكامل إيه ؟

استغربت السؤال فهو يعرفني جيدا من قبل ويعرف اسمي، ولكنني أجبته دون أن تغادر عيني مكانها في عيني الرجل، بعد وهلة قال الأحمق: نرجو من الأستاذ فلان أن يقرأ علينا آخر ما كتب..

توقفت قليلا عند اسمي الذي نطقه الأحمق باستظراف محكم،وكانت لحظة غبية منه ليّ،وكأنه يتحداني في مباراة مصارعة.. لم يكن معي ما أقوله،وبالطبع من المستحيل أن تؤلف قصة شفاهي، ولكنني طلبت منهم عشر دقائق فرصة.. فقد قبلت التحدي ، قبلته من أجل ذلك الرجل الذي لم أكن أعرف بعد اسمه كاملا،أخرجت من جيبي ورقة مطوية بها أرقام تليفونات،وطلبت قلما من جارتي،ورحت اكتب قصة على الهواء وعزمت على تمزيقها بعد الإلقاء،وفجأة وجدت بؤرة الحكايات تتسع أمامي لأملأ الوجه الفارغ من الورقة بكلمات وجمل ظننت أنها قصة صالحة للموقف؛حتى لو كانت ضعيفة،فالرجل كان يتابع ما أفعله وأخطه في استغراب..ربما مثلهم توقع الفشل ليّ،وتوقع أن أقف موقف التلميذ الخائب وسط أدباء حرفتهم الحقيقية الكتابة،بعد ثمان دقائق كنت قد انتهيت من قصة وصف .. وصف بكل جنونها وحبها للحياة،وصف باعوجاج فمها وهي تنطلق الكلمات في دلع ودلال،وصف وهي تتلقى أول قبلة وتهرب من بين أنفاسها ألاف القبلات،وصف التي لا أذكر الآن كيف كتبتها،وكيف كانت وصف ..

وقفت متأملا نفسي،لأول مرة في حياتي أشعر بأنني على حافة امتحان ، وأنني مستعد للرسوب وأن سنوات انشغالي وبعدي عن شلة الأدباء قد أضعفتني وأضعفت قلمي ومكانتي،لم أشعر إلا بأول كلمات القصة تخرج من بين شفتي،ولسعة برد جارفة تجذبني ولا أعرف هل هي تأتي من داخلي أم من الجو،بعد مدة بدت لهم ثواني طاوعتني الكلمات وراحت تتدفق من بين فمي،مستسلمة لنظرة عين لا أراها،وساد المكان هدوء غريب أحسست أنني أحلق مع وصف،أطارد عصافير الجنة،أذبح الضفادع لأستخرج من بطنها خاتم سليمان،يقف جني الكتابة ضاحكا ، وأنا أدور بالكلمات بين شفتي ويسود الهدوء،شيء لا يقطع خلوة المكان ، ولا يقطعني،شيء يضيف للحكاية مسارات أخرى،شيء يجعل ما كتبته في ثماني دقائق نظما لا أعرفه،لتخرج وصف؛لتحلق فوق رؤوس الجميع ، تفرد أجنحتها محلقة لأتحول معها إلى فراشة جذبها النور إليها ، ويأتي صوت الأديب عبر عقلي لا تتوقف حتى تنتهي،لا تتوقف .. ويظل السرد محكوما بشخص غيري،شخص يملي علي ما أقوله،شخص يقرر أنه البطل الحقيقي للأشياء،ما أبدعك يا وصف،لم تخذليني، ما أبدعك.. بعد دقائق قليلة توقفت .. لأكتشف أنني هبطت مرة أخرى للأرض وسطهم ، والتصفيق يدوي بشدة ،تصفيق حقيقي،غير متوهم لمحت تلك الغمزة من عيني الأديب الكبير،وكأنه يقول أنت لها ..

ضحكت كثيرا وأنا أودعه وهو يراني أمزق الورق بما فيها من نمر تليفونات والقصة،فما كتبته يخصه هو ووصف، ووصف لا يجوز أن تكون كلمة مجردة في قصة مهما كان كاتبها حتى لو كنت أنا صانع الوصف..

شوارع سالم  

Posted by: محمد إبراهيم محروس


شوارع سالم..

لا أعرف لماذا اختار شوارع سالم لتكون بداية لقصتي هذه ، ولكنها هي من بدأت من عندها الحكاية ، شوارع سالم منطقة أعرفها وأحفظها كظهر يدي ، عشت فيها مجمل حياتي متنقلا من مكانا للآخر بانسيابية ثعبان حاذق ، طفلا مشاكسا كنت ، طفت شوارع سالم كما يطوف النسر حول فريسته ، اقتنصت منها لحظات حياتي تقريبا ، هبطت إليها من أعلى ، من منطقة شرقية في حضن الجبل حيث الهدوء الذي تتنفسه كل صباح ، كانت شوارع سالم مكتظة بمئات من الأشكال والبشر ، في تلك المنطقة من شوارع سالم وفي بلوكات قديمة انتشرت حياة جديدة عليّ ، وبالنسبة ليّ كانت جديدة كل حياة ، في وقت تمردتُ فيه على حبسي في البيت تهربا من اللعب مع العيال؛ لأنني كنتُ أبدو أمامهم ضعيف الحيلة ، وكنتُ معرضا دوما لعلقة من أي أحد في معاركي التي أدمنتها ، وكانت أمي شديدة الفزع عندما تراني مصابا بجروح جديدة ، ولكنني غلبت أن أفهمها أنها ضريبة التواجد في شارع سالم .

في تلك البلوكات نبض داخلي نبض جديد في الحياة، كنت في العاشرة وقتها من العمر، أطوف الشوارع كالمجذوب يبحث عن شيء ما ، لا أخفي عليك أنني كنت أعبث في القمامة وأستخرج من وسطها ألعابا عديدة، أخرها كان سيارة "أتومبيل " نحاسي كدت أن أموت وأنا أوصل له سلك كهربائي، وأوصله " ببرايزة" الكهرباء، لينتفض جسدي بشدة مرتطما بحائط غرفتي ، وقتها منعتني أمي عن النزول للشارع لمدة بدت لي أطول مما ينبغي ،ولكن المدهش حدث ليّ بعدها، بعد أن تسربت الكهرباء إلى جسدي ، فجأة أصبحت أمسك أسلاك الكهرباء بيدي دون خوف ودون مبرر ، وكأن جسدي تحول إلى شيء خاص آخر ، كل هذا ليس بمهم قدر أهمية شوارع سالم ليّ ، وحي الأفرنج ، حيث يقبع في نهايته بلوكات القوات الدولية التي كانت ما تزال مرابطة في بلدتنا بعد الحرب ، يومها وفي أحد المعارك مع أحد أبناء عثمان بائع الذرة ،والذي كان معاق ذهنيا ،وبعد أن أمتعني بعلقة خاصة وجدتها أمامي وأنا مطروح على الأرض ،طفلة مثلي، تكبرني بشهور قليلة أتت مع أبيها وأمها ، الذين كانوا ضمن قوات حفظ السلام الدولية ، لم أشعر بكم الألفة التي شعرت بها يومها مع أي كائن آخر في الحياة ، كانت بيضاء ، بياض لم أره ولن أراه في حياتي بعد هذا ،عينان زرقاوان واسعتان ، قامة مشدودة في قوة واعتداد ، دفعت هي ابن عثمان عنيّ ، وضربته وهي تشتمه بألفاظ لم أفهم معظمها ، حينذاك بدوت أمامها كشيء آخر لا أعرفه ، فقدتُ كل الشقاوة المحبوسة في دمائي وأنا أهمس لها شاكرا ، بينما تهزّ هي رأسها وترحل ، أصيبتُ بعدها بمرض غريب؛ كنت أشاكس الأطفال بعنف وشدة وأسحبهم إلى أسفل بيتها؛ كي يضربونني ، بينما أحدق أنا إليها مستغيثا بها ، تهبط بعد تؤدة ، وقد سحبت في يدها كلب أبيض " لولو" اسمه شاكي ، تنهر العيال وبطريقتها الغريبة، يخشونها ويهربون ، وأظل أنا أحدق في وجهها في وله ،يوما بعد يوم عرفتْ دائي وعرفتْ دوائي ، بينما كان أبوها يتركنا أحيانا نلعب ضاحكا ، وكأنه يشعر بحاجتها إلى دمية خاصة ، بعد فترة كففتُ عن هذه اللعبة المميتة والتي كادت أن تهلكني .. أصبحت شوارع سالم بكافة ناسها مجرد ذكريات ، بينما ظل حي الأفرنج مساري الدائم إلى بيتها ، خطواتي التي أعرفها وأحسها جيدا ، جسكا ، كان اسمها ، تعلمتْ بعض العربية هنا ، تهمس أحيانا ليّ : أنت جبان ؟!

أخاف أن أجيبها، انسحب من أمامها فزعا من تصوري نفسي جبانا، أخاف علي نفسي من الخوف، أرى في عينيها أحيانا تساؤلات عديدة.

أسحبها إلى غابة البوص لنسلخ أعوادا منه ونهبط إلى الحلقة لنصطاد سمك،تتحرك حولي ولا أشعر أنها تتحرك ، تتأمل السمك الذي نصطاده ، وتعيده لمياه الحلقة بعد فترة ، ضاحكة ،أدمنت اللعب معي وأدمنتها ، كنتُ أحاول كل يوم اختراع لعبة جديدة؛ لتشدها نحوي ..ولكنها هي هذه المرة من اختارت اللعبة .

وبدأت لعبة أخرى تظهر في حياتي بغتة ، كانتْ تملك قفازين ملاكمة ، وكانت تدعوني دوما إلى أن أرتدي أحدهما ، وأدخل معها في شوط طويل أخرج منه وقد أحمرت عيناي ، وارتج مخي في رأسي ، كانت تضحك وهي تقول كلماتها العربية القليلة وتصبها في أذني : أنت جبان ؟!

لم أعرف للحياة وقتها طعما سوى نظرات عينيها الخائفة أحيانا ، والمرتعشة أحيانا ، والولعة أحيانا عليّ ، أتذكر أصابتها المباشرة في رأسي في أحد الجولات ، وأتذكر وقوعي على الأرض الآن وكأنه كان بالأمس ، وأتذكر شفتيها وهما يقتربان من وجنتي لتطبع قبلة سريعة معتذرة ..

أتذكر دبيب العشق في روح طفل صغير كانت تحمله شوارع سالم إلى فوق وفوق..

وجاء اليوم الذي لم أكن أحسبه ضمن الأيام ، كنت ارتدي قفازي الملاكمة ، وأحاول أن أحافظ على وجودي واقفا أمامها ، تلقيت عدة ضربات ،ولكنني قاومت الوقوع ، الذي لم أتصوره أن يقتحم ابن عثمان السور ويهبط بيني وبينها ، ثم يضربها بيده؛ لتقع أمامي على الأرض وهي تصرخ ، وأقف أنا أمام ابن عثمان موقف الخائف لأول مرة أتذكر كل "علقاته" ليّ .. أضربه في وجه بعنف بقفازي الملاكمة ، يشتد الجنون أمامه ويجز على أسنانه قبل أن يهبط علي كالطوفان ، انهالت ضرباته علي بجنون لم أتصوره قط ، وانهارت مقاومتي بعد لأي ،آنذاك كانت "جسكا" تحاول الوقوف ، ولكنها تعرضت لضربة قوية من ابن عثمان الذي فر بعدها هاربا ، تاركا أثار على وجهينا وجراحا للزمن .. يومها نظرتْ ليّ جسكا نظرة غريبة ..

وهي تقول : أنت جبان ..

بعد فترة حاولت الرجوع إلى بيتها، حاولت أن أسلم على أبيها، والذي لم يعطّ لي أدنى اهتمام، وكأنه عرف أن ابنته ملت لعبتها..وكأنه هو الآخر متفهما لطبيعة علاقة ابنته بي وانتهائها .. وأخذت الأيام تدور؛ لتختفي جسكا من حياتي ..وتختفي بلوكات قوات حفظ السلام ، وتتغير شوارع سالم بأهلها وسكانها ، وتختلف الوجوه ، ولكن دوما أتذكرها وأنا أقطع شوارع سالم عندما تصطدم عيناي بابن عثمان واقفا أمام عربة خشبية يهز منشة خاصة أمام وجهه ، وتلتمع جمرات الفحم ، وتطقطق حبات الذرة ، وأميل عليه هامسا :فاكر جسكا ..

يأتي صوته فرحا وسط جنونه: ضربتها صح، ضربتها صح وضربتك، أنا بطل ضربت الانجليز..أنت جبان تلعب مع الانجليز .

أناوله جنيها وآخذ كوز الذرة ، وأنا انسحب ضاحكا بالمثل ، ووجه جسكا وعينيها الزرقاوين يلمعان وسط شوارع سالم لمعان طيف ..وأنا أهمس لنفسي : صح ..أنا جبان ..



قاتل يا أنا !  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

http://www.elbadeel.net/images/stories/cartoon/ghaza_t7trk.jpg

يتصاعد الألم بداخلي دون سبب ،أشعر بنفسي كبركان على وشك الانفجار ، الرؤى تتبادل وتتراقص في ذاكرتي ، لا أشعر بالانتماء لأي شيء ، فقد مجرد إحساس متخم بالضياع .

صباحا، مساء، بعد ظهر يوم قارس البرودة، أشياء تبدو وكأنها مرصوصة في ذكريات الزمن المتجمدة بالحسرة على أيامي المملة الرتيبة، أتنفس الحياة وأرفضها، أناقش خلايا جسدي في شعورها الطبيعي بالامتنان أنني ما زلت حيا..

أفتح جريدة الصباح تصطدمني الصور المتتابعة ، أضرب وجهي بكلتا يدي ، تلتهب وجنتي من عصف التصفيق عليهما ..

ما زال بداخلي هذا البشري الذي يشعر وأنها لكارثة، الدموع التي تجيش في نفسي وتبدو وكأنها تقبع تحت جلدي نفسه، لا أعرف حقيقة أي أمر من أمور السياسة، ولا أدرك الفرق الطبيعي بين الموت والحياة..

سمعتهم يقولون إنهم يموتون دون سبب أو جريمة ، وسمعتهم يقولون إن الموت يأتي بشرف مستحيا من نفسه عندما يستقبلونه وهم يرشفون الشاي في بلكوناتهم ، متطلعين لأعلى للطائرات والقنابل التي يتواصل رنينها عبر أسماعنا ، ولكن من الواضح أننا لا نملك أذان ..

قال صديقي: لم استوعب الأمر بعد، لا أعرف كيف يموت الناس بهذه البساطة..

بحثت في داخلي عن مبرر يمنعني من الصراخ.. يأتي الهسيس عبر النفس والرنين المجوف لي .. اكتشف بعد وهلة أنني أصبحت إنسانا مجوفا، ربما مات بداخلي أنا أيضا الحياء.. سمعته يقول ببساطة متناهية عبر المذياع أي شيء يا عرب يحمينا، أي شيء.. مددت يدي للفضاء، للسماء ، أبحث عن ملك الموت ربما يأتيني الآن ،فاكف عن الألم ، ويقتل بركاني النفسي المدمر أخاف على نفسي مني ، أخاف أن أسبح مع التيار لأمزق نفسي بسكين حسرة وخوفا وضعفا ، أي ذل يفوق هذا الذل أي ضعف يفوق هذا الضعف .. أي حياة أستحقها وأنا أحمل بداخلي كتاب الله وسنة رسوله..

رسالة إلى نفسي.. أكتبها وأحاول أن أرسلها، ولكنني أكتشف أنني أضعت عنواني.. تركت الحياة وأنا حي أرزق، هل الخوف على لقمة العيش، أم الخوف من السلطة أم الخوف من الحياة..

الخوف لمجرد الخوف ، أفواه مكممة ، وعيون معماء ، والقتل مباح يا أنا .. القتل مباح ..

يأتي صراخها عاليا، أين أنت.. أين أنت.. أتذكر رحلة لي على حدود رفح المصرية ، وكيف قسمت فعلى الجانب المصري أسرة مصرية من جدة وحفيدة ، بينما ابنتها على الجانب الآخر ، وعلم إسرائيل خفاقا يرفرف على أحد المباني وكأنما الحياة أصبحت تقتل حتى رؤيتي .. جحيم اللحظات والمرأة تريد مني أن أزعق بصوتي لتسمعني ابنتها على الجانب الآخر .. جحيما أن يفصل الحي عن الحي سور وأسلاك شائكة، وعلم مدموغ بدماء الأبرياء.. ملعون يا أنا.. ملعون يا داء الخرس، ملعون في كل كتاب.. القتل مباح يا صديقي وأنا مثلي مسجونا في وطني، مكبل مثلك، قاتل وقتيل.. قاتل يا أنا.لا أريد أن أتكلم عن منظر الدماء يكفيني ما ارتوت عيني وقلبي منها ، يكفيني ما سكن منها في جراحي وقتلني ، يكفيني رؤيتي لنفسي أتمزق حزنا وألما ، يكفيني أن أصرخ وأصرخ وأصرخ ، وتحطم راحتي وجهي .؟..ألطم كالنساء ..ألطم كالنساء .. بينا يردد آخرون .. أنك غبي..لأنك ما زلت إنسانا.