رجل لا تعرفه الشوارع ..
Postedكان يمشي وكأنه يطارد الأرض والسماء، يرقص بين نفسه وحول نفسه يدور في خيالات متعددة لا أراها.. أحاول أن أجتذب شيئا من وعاء الذاكرة الخربة، أجده هناك منزويا في ركن مرّ عليه تسع سنوات.. إنه هاني ..
هكذا رحت أؤكد لنفسي برغم أن ما يلبسه من ملابس لا يمت بصلة لهاني الذي أعرفه .. فقد كان يرتدي قميصا متسخا بشدة، وبنطلونا شبه ممزق، ويبرز جزء من كرشه الضخم وسط قميصه الذي تمزقت أزراره وبدت بطنه عارية أمامي وكرشه كأنه يناطح العالم.. أردت أن أتوقف.. أن أسير.. ولكنه كان ما يزال يواصل الرقص حول نفسه في حيرته من تحديد اتجاه سيره.. بعد مدة بسيطة وجدت صوته يعلو بهتافات غريبة .. وكلمة " أوعى بقى " بصوت عالي تتردد من بين شفتيه بطريقة جعلتني أشك أنه يقصدني.. هل أقترب؟ .. " أوعى بقى "
لممت خيوط نفسي التي أصبحت هي الأخرى ترقص حوله ، أتذكر هاني وابتسامته الرائقة ، وأتذكره عمه أكبر مقاول في بلدتي الصغيرة، أتذكر هاني وهو يجول شوارع المحافظة بعربته الفارهة ، وعندما يرغب في أين يقطع شوارع السلطان حسين مشيا ؛يركن سيارته بجوار الحزب الوطني ،وينزل هو وزوجته الفرنسية يطوفان شوارع المحافظة محلقين كطائرين من السماء ، تسع سنوات مضت ،ولكنها لم تكن بكل تلك الحيرة التي وجدتها لحظة أن التقت عيناي بعينه وهو يصرخ " أوعى بقى "
وفجأة وكأنه يتذكر شيئا ما وهو يتطلع في ملامحي قبل أن يصرخ :- محمد يخرب بيتك أنت لسة عايش ..
أضحك دون سبب ، ربما لأنه بدا لي أشد ذاكرة مني.. أجبته بصوت فرح :- أهو بنحاول يا هاني .. إزيك ..
يضحك وهو يقول بعنف :- أنا كويس خالص ..
يعدل من وضع قميصه الممزق وهو يقول :- معكش حاجة ..
انتبهت للكلمة وأنا أحاول أن أسايره في الحديث لعلي أعرف أين هو من هاني الذي أعرفه ..
فقلت:- حاجة إيه ؟!
مد يده باتجاه جيب قميصي العلوي وأنا أحاول أن أزيح يده برفق وهو يقول:- أوعى بقى..
قلت في هدوء وأنا أترك له جيب قميصي العلوي؛ ليعبث به كيفما أراد، ولكنه توقف وهو يخرج عشرة جنيهات وعلبة السجائر من جيبي قميصي العلوي وهو يقول: بتشرب مستورد.. رايقة معاك باين ..
أضحك وأنا أقول له :- خلي ..
يضع علبة السجائر في جيبه وهو يقول :- طيب ..
أردت أن أساله كيف وصل به الحال لهذه الدرجة ؟!،ولكنه لم يعطني الفرصة وهو يقول :- مش إيمان هربت ..
قلت وأنا أحاول الغوص خلف عينه التي بدت لي شديدة الاتساع : - إيمان مين ؟
يخرج علبه السجائر من جيبه ، ويقدم سيجارة لي وهو يقول :- ولع .. عشان تعرف أن خيري عليك..
ابتسم وأقول :- عارف طول عمرك خيرك على الكل .. بس مقلتش إيمان مين ..
أشعل سيجارة لنفسه وهو يقول :- ما تيجي نقعد ..
انجذبت معه ، وقعدنا على الرصيف نراقب الشارع لفترة..راح ينفث دخان السيجارة الثالثة وهو صامت وبعد وهلة نظر ليّ وهو يقول :- تاخد سيجارة تاني .. خد خد ولع بقى.. اها أنت كنت بتسال عن إيمان .. إيمان مراتي أنت تعرفها باسمها القديم " سيلفي " صح
أقول ببساطة قدر إمكاني :- أها .. سيلفي .. هي سيلفي هي إيمان.. هي هربت ؟
يقول بغضب :- أها هربت أنت مالك .. خدت أحمد وفاطمة وهربت .. بس " سيلفي " أسلمت وبقت إيمان..
أحاول ألا أبدو مندهشا وأنا أقول :- طيب كويس بس هي هربت فين؟ ..
يغمض عينيه ويفتحهما وهو ينظر باتجاهي قائلا :- أنت حشري ليه .. طول عمرك حشري كده .. أوعى بقى ..
أحاول أن أقف فيشد يدي لأجلس بجواره وهو يقول :- رايح فين اقعد .. خد سيجارة أهي .. ولع واقعد ..هي رجعت بلادها تصور .. ست سنين جواز وبعدين تهرب مني .. وخدت العيال أحمد وفاطمة ما أنت عارفهم ..
قلت بهدوء :- وأنت عملت إيه ؟
قال بعنف :- عملت .. عملت كتير .. بلغت البوليس والحكومة ورحت السفارة.. وبلغت الدنيا كلها ..
- هاه وبعدين ..
- قالوا ملناش دعوة .. ها ها ها ..
- طيب وبعدين ؟
قام فجأة وهو ينظر للسيجارة في يده، والسيجارة في يدي، ثم أخرج علبة السجائر من جيبه وقذفها في وجهي وهو يقول:
- أنت بتشرب مستورد .. أوعى بقى أوعى بقى..
وراج يجري وسط الطريق غير عابئ بشي.. بينما تسمرت عيناي عليه حتى اختفى وظل صوته يتردد في أذني صاخبا لفترة طويلة : أوعى بقى .. أوعى بقى ..
النص رائع
كل التفاصيل والملامح واضحة تماما
وتكاد الصورة تنظق
شعرت بدخان السجائر يعبأ المكان
والشخصية كانت لحم ودم
تحياتي
وليد
مرحباً
لقد قام أحد المعجبين بمدونتك بإضافتها إلى تدوينة دوت كوم، بيت المدونات العربية.
قام فريق المحررين بمراجعة مدونتك و تصنيفها و تحرير بياناتها، حتى يتمكن زوار الموقع و محركات البحث من إيجادها و متابعتها.
يمكنك متابعة مدونتك على الرابط التالى:
http://www.tadwina.com/feed/716
يمكنك متابعة باقى مدونات تدوينة دوت كوم على الرابط التالى:
http://www.tadwina.com
لعمل أى تغييرات فى بيانات مدونتك أو لإقتراح مدونات أخرى لا تتردد فى الإتصال بنا من خلال الموقع.
و لكم جزيل الشكر،
فريق عمل تدوينة دوت كوم.
http://www.tadwina.com