الجنية والمجذوب
Posted
الطريق إلى قريتي شاق والترعة الغربية تقسم القرية إلى نصفين ..
لا بد لمن يريد أن يذهب إلى عمله كل صباح أن يركب معدية بدائية
معلقة بين ضفتي شاطئ الترعة تسير بواسطة جنزير معدني
ضخم .. يعجز أشد الرجال على أن يعبر بالمعدية وحده ..تعجز يد
أقوانا على شد السلسلة المعدنية لأكثر من دقيقتين .. الوحيد من
أهل القرية الذي يستطيع أن يعبر بالمعدية وحده هو " محمد
المجذوب " .
لم نعرف تحديداً متى سكن قريتنا ، بل ليس هناك أي تاريخ عائلي له ، لقد إنتبهنا يوماً إلى وجوده في المعدية .. كنت وقتها لم أزل طفلاً صغيراً لم أتجاوز الخامسة من عمري .. سكن محمد المجذوب المعدية ، أخذها مسكناً وملجأ له .. ينام فيها ويصحو بها ، ويديرها وحده ، ويساعد الجميع على العبور.
الجدة كانت تمنعنا من الإقتراب من الترعة ليلاً .. فالترعة مسكونة والجنية تخرج كل ليلة لتصطاد ضحاياها .. كثيراً من الحكايات سمعتها ..الجنية تخرج ليلاً عند إكتمال القمر وتختار ضحيتها بعنايه و دائماً ما يكون شاباً يافعاً وتأخذه في أحضانها وتذهب به إلى مملكتها في باطن الترعة حيثُ يعيش معها فترة في نعيم قبل أن تتسلى بقتله .. وكلما غرق أحد شبان القرية لسبب لا نعلمه إزدادت تحذيرات الجدات لنا بعدم الإقتراب نهائياً من ترعتنا .. ظلت تلك التحذيرات محفورة في ذاكرتي إلى الآن ..لم أقترب من الترعة ليلاً أبداً .. حتى عندما كبرت قليلاً وعرفت أن حكايات الجدة وهم .. كنت أخاف لسبب لا أدرك كنهه من الإقتراب من شاطئ الترعة ليلاً .. مرت السنون وكبر بي السن أصبحت رجلاً يتباهى بي سكان البيت .. ولسبب طارئ كان لا بد لي من السفر ليلاً ، وكان لزاماً أن أعبر بالمعدية .. فلم تمض بقريتي حالة العمران ولم يتم إنشاء كوبري يربط بين طرفي الترعة .. كأن السلطات تجاهلت أمر قريتنا تماماً ..أقتربت من الشاطئ بحذر وترقب ، وكان محمد المجذوب يتوسط المعدية ويمسك الجنزير المعدني في قوة يحسد عليها رغم كبر سنه ..
دلفت إلى المعدية وأنا أبتلع ريقي في صعوبة ، كنا خمسة رجال وامرأتين وبغلاً ، دعتنا الظروف إلى ركوب المعدية في ذلك الوقت من الليل .. تذكرت إحدى حكايات الجدة بأن الجنية تزوجت المجذوب .. فضحكت .. ولكنني كنت أرتجف من البرد .. ولكن الحقيقة إنني أرتجف خوفاً من شئ لا أعرفه .. وتساءلت بين نفسي متى ينام المجذوب ؟! .. لا أحد منا رآه أبداً نائماً .. وطفقت في خيالي صورة عجيبة ..ربما كان حقاً زوج الجنية التي طالما حذرتنا منها الجدة .. وقهقهت هذه المرة في صوت عال .. أثار انتباه الرجال .. بينما مصمصت إحدى المرأتين شفتيها في صوت مسموع .. حاول أحدنا أن يساعد المجذوب في عمله ، ولكنه رفض بشدة وقال :إنه مازال بكامل صحته ..
ومع إصرار الرجل على المساعدة ؛سمح له المجذوب على مضض .. وبغته ارتجت بنا المعدية .. صرخت المرأتان .. وقفز البغل في مكانه ،وراح يرفس وصاحبه يمسكه في قوة قدر الإمكان، وفجأة وجدنا المياه تغمر المعدية ..
إننا في نصف الطريق ؛أعمق جزء من الترعة .. ازداد الرعب بداخلي وصرخت أنا الآخر ؛ فإنني لم أتعلم السباحة في يوم ما ..الوحيد الذي لم يظهر الخوف عليه كان المجذوب الذي تسمرت يداه على جنزير المعدية .. ولكن للأسف أخذت المعدية تغرق .. وصلت المياه إلى أذقاننا .. ثم غمرتنا .. لا أذكر شيئاً بعد ذلك تحديداً ، غبت عن الوعي وعندما أفقت وجدت نفسي على الجانب الآخر من الترعة .. ولكن من رأى الموقف على الشاطئ الآخر وهم كثيرون .. زعموا أن المجذوب ظهر له جناحان ،وأن يده تضخمت إلى حد رهيب ؛حتى غطت المعدية كلها؛ ثم حملنا على جناحيه وبين يديه وعبر بنا الترعة .. الوحيد الذي نجا وحده هو البغل .. لم يصدق عقلي هذا .. ولم أفهمه أبداً .. ولكن الغريب أن محمد المجذوب اختفى من يومها ولم يصبح له وجود نهائياً ..
والحواديت تتوالد وتتوارث كل يوم ، وما زلتُ في انتظار أن يظهر المجذوب مرة أخرى دون طائل..
This entry was posted
on 8:00 م
.
You can leave a response
and follow any responses to this entry through the
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
.