في انتظار المهدي
Postedتبدأ أسطورة التنغيمات منذ لحظة ولادته ..كانت ولادته ولادة غير طبيعية بالمرة ، فقد قالت الداية وقتها :إن المولود يغمغم وينغم بلسانه وكأنه يعزف لحنا جنائزيا حزينا ..
لم تفهم أمه وقتها السرّ في ذاك التنغيم الهادئ الذي يخرج من بين شفتي وليدها ، والذي راح يزداد مع الأيام الأولى .. حتى إنها كانت تستيقظ ليلا مفزوعة مع زيادة حدة التنغيم في صوته ،ومع مرور عدة شهور اعتادت الأم على ذاك الصوت الغريب ، واللحن الشجي الغامض !.
فكان ينام الصغير بجوارها وتلفها طاقة رهيبة ، سيمفونية ليلا ، حتى تشرق الشمس فيكف الصغير عن التنغيم ويستسلم للنوم ..
بدأت أقوال في الشارع تزداد على أن هذا الطفل معجزة ، وبه شيء لله .
ولكن الغامض أن كثيرين استبشروا خيرًا بوجوده ، وبعضهم أدعى أنه يشبه المهدي المنتظر ، بل أكد البعض أنه هو بذات نفسه ، وهو الذي يخلص حارة العشاق من بلوتها الدائمة ، ومن جبروت سيد الأمام .
أصبح النقيض للنقيض يمضي ، وصارت الحالة من أسوأ إلى أسوأ مع تفرد سيد الأمام بالشارع والحي كله ، تفردًا لا سبيل لدحض شبهة التواطؤ فيه ،برغم جبلة الكل على الخوف، الذي كان يمثل منطقة تفرد ونفوذ في نفوس الأهالي ..
وكان كل رضيع يولد وعلى جبينه لعنة أن يطأطئ برأسه للريح حتى تمر ، ولأن الريح كانت دائمة وشديدة العصف ، ظلت الرءوس تزداد اقترابا من الأرض عاما بعد عام ، حتى أصبحت نظراتهم لصيقة بالأرض ، ومع ميلاد المهدي كما أسمته أمه ، ظل أمل ضعيف أن تتحقق أسطورة الفوز الرهيبة، التي تحكى كتيمة خاصة في الأسطورة الشعبية، التي تراكمت عبر السنين في الوجدان الجمعي للشارع .
وباتت المنغومة الليلة تخرج من بيت أم المهدي؛ لتشرف على الحارة في أشد الليالي حلكة ، حيث تبدو طبقات الهواء حاملة اللحن الغريب ، والذي يقول البعض أنه يخترق الجدران ويصك آذانهم ليلا ؛ لدرجة أن سكان الشارع بدأ بعضهم يضع قطع من القطن في أذنه قبل النوم ، وبرغم هذا تتسلل المنغومة إليهم ، والنساء في الشارع يقلن إن رجالهن يصبهم نوع من الشبق الجنسي في تلك الليالي ، وبعضهم يصمم على ممارسة الحب حتى مطلع الصبح .
ومنذ شارف سن المهدي علي السنة حتى كانت جميع نسوة الشارع قد حملن في دعابة ندرة تكررها ..حتى من تأخر حملهن لسنوات ، ومن قارفت سن اليأس وجدت الحياة تدب في خمول جسدها الواهن ، وثمار التبويض تفعل فعل السحر؛ فتعود لها دورتها الشهرية ، مر العام وأسطورة المهدي تزداد يقينًا في نفوس الجميع ، وسيد الأمام يزداد قلقًا وتوترًا، خصوصًا بعد أن قيل إن البعض رفع عينيه عن الأرض، وبعضهم خرج إلى عمله ينظر أمامه مباشرة ، بل وصل الأمر أنهم أصبحوا ينظرون للسماء بترقب .. وكأن طاقة جديدة من الحياة تدب أو تسير بينهم .. اللغز أصبح لغزا ، فما الجديد ؟!.
الجديد أنه بعد أن وصل سن المهدي عام كامل كف عن الرضاعة ، وصدت نفسه عن صدر أمه ، وبدأ صوت تنغيمه الليلي يضعف حتى كف في يوم ما ..
وعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه ،وانتهت حالة الانتشاء ، وكفت النساء عن الحمل ، وكف الرجال عن رفع عيونهم عن الأرض ، وبدأت حالة من الخمول الأسري والشخصي يخضع لها الجميع، وراحت تسيطر على الوضع بكل لغزيته ، وقال شيخ الزاوية القريبة ، والذي حملت زوجته المسنة منه : لكي يرجع المهدي إلى التنغيم إن على أمه إلا تفطمه قبل عامين ، ربما يستمر الخير لعام آخر ..
لكن الكلام شيء والفعل شيء آخر ، فقد امتنع المهدي عن الرضاعة نهائيا ، وكف حلقه عن أخراج الصوت المنغم ، ومات اللحن في فمه ..
قال شيخ الزاوية : لابد من متطوع ؛ليذهب إلى أحد الشيوخ الكبار؛ ربما أعدوا وصفة للمهدي؛ حتى يعود كما كان ..
وآخرون تمسكوا بحظهم الضئيل من الدنيا ، وقفوا موقف المتفرج اليقظ، ربما تتغير الصورة في يوم ما .. ولكن الفتوى التي أتت لهم من كبير الشيوخ كانت مفزعة وغير مبررة بأي شعور آدمي .. فقد قال الكبير: أن الرضيع تسكن جسده الشياطين ، ولابد من ذبحه حالا؛ تمثلا واقتداء بسيدنا الخضر .
قوبل كلام الشيخ الكبير بالاستهزاء والاستهتار ، وقال شباب الشارع الذين لم يصيبوا سن الزواج بعد: إن في الأمر خدعة وأن الكبار استسلموا للأسطورة ، وربما لنفوذ سيد الأمام .
وأم المهدي أصابها الجزع والخوف وازداد التصاقها بابنها ، بعض النسوة نصحنها بالتخلص من الرضيع، والتمثل بأم نبي الله موسى ، وقذفه في اليم؛وسوف يرده الله إليها مرة أخرى ، ورحن يذكرنها بآيات القرآن وما ورد فيها .
ولكن اليم كان بعيدًا بعد الحدود ، والوصول إليه مستحيلا !
وبدأت أخيلة ومشاهدات مريضة تصادف الأم في نومها وصحوها وتؤرق نومها ، ومع مرور الأحلام وكثرتها أصبح لا مفر من التخلص من المهدي ، ولتنجيه أمه من الموت بعد أن وصلت أخبار رهيبة أن سيد الأمام قد رصد مكافأة ضخمة؛ لمن يأتيه برأس الرضيع ، ولكن من خرجوا صباحًا؛ لمطاردة حلم المكافأة، اكتشفوا بعد اقتحام مدوي للبيت، اختفاء الرضيع ، ولم يعثروا له على أثر ، وبرغم استخدام أسلوب القمع والترهيب،ثم الترغيب والمهادنة مع الأم ، ولكنها قالت: إنها لا تعرف أين اختفى الرضيع؛ فهو يعملها أحيانًا ،ويظل مختفيًا لساعات ،ثم يظهر بغتة دون إبداء أسباب للاختفاء والظهور .
وبدأت أخبار متواترة ومغالطة تظهر ،البعض أكد أن المهاجمين فوجئوا بالرضيع يكلمهم ويعظهم أن يتقوى الله ، وأنهم خروا مغشيا عليهم ، وعندما أفاقوا لزموا زاوية الجامع في تجمع غريب وهم يهتفون " الله أكبر "
وأكد البعض أن ما قاله المهاجمون محض هراء ، وأنه لا أحد يتكلم في المهد صبيا ، وقال شيخ الزاوية لابد للرجوع للشيخ الكبير مرة أخرى ، وأن يأتوا بفتوى جديدة غير مطروقة من قبل ، فالأمر تعد الخيال الجمعي والتراث وكل شيء كان .. ولا أحد يتكلم في المهد ، وأن زمن المعجزات قد ولّى؛ فلا سبيل سوى النكوص على أعقابهم خوفًا وقهرًا من سيد الأمام .
سيد الأمام الذي أفزعته الصورة وحدود التخيل؛ فهاجم برجاله الحي والشارع ، وفرض إتاوات جديدة؛ أثقلت الأهالي ، وأقسم بأغلاظ الإيمان أن لم يأتوا برأس الرضيع ليحول حياتهم جحيما لا يطاق .
ومن مستصغر الشرر تكبر الأسطورة ، لم تجد الأم سوى أن تقذف بالمهدي إلى أحضان اليم ، وأن تخفي ما حدث، فربما يرده الله إليها بعد حين .
ومع خروج ليلي غير متوقع ، خرجت أم المهدي ، لتعود بعد شهور دون الرضيع ، وقد أثقلها مرض الرحلة وطولها .. وقالت :إنها لم تجد بدًا من التخلص منه بعد ما أثار وجوده من قلقلة للحي ، وبعد أن أصبحت الكوابيس أحد منغصات حياتها .. وأنها لم تعد تستطيع الحياة وسط القلق العاصف ، خصوصا بعد التهديدات بقتله وبعد اختفائه وظهوره العجيبين ،والذي قالت النسوة عنه أنه يختفي تحت الأرض وأنه متزوج من جنية رهيبة لا سبيل لفك الخلاص منها إلا بقتله .
وبدأت الحياة تموت في الحارة من جديد ، حيثُ ظهر جبروت سيد الأمام في أقصى درجات العنف ، وحيثُ أجبر الجميع على أن لا يخرجوا من بيوتهم بعد غروب الشمس ، أصبحت الحياة مستحيلة ، حتى عندما أتت فتوى الكبير أن الطفل مسكون بروح الزمن وحكايات التاريخ ، وأنه أمثولة يجب أن يظل الزمن محتفظا بندرتها .
وسأل عن الوضع ؛فأرسل شيخ الزاوية من يخبره بما حدث وبما جرى ،فرد عليه الكبير رسوله محملا بأقذع أنواع السباب ، وأنهم بذلك فتحوا مجال للأسطورة إلا تنتهي ، وطالبهم بأن يضغطوا على أم المهدي ؛لتخبرهم بمكانه ، ولكن عندما ذهب شيخ الزاوية إلى بيت الأم وجدها قد ماتت إثر فعلتها ، ماتت وهي تبكي المهدي الصغير ،ذاك الطفل الذي لم يرتكب أثما في حياته ، ولم يصدر منه ما يدل عن شر حتى في الخيالات المريضة لحي العشاق المريض .. وعقد سرادق للعزاء ، وبكاها النسوة المتشحات بسواد الأيام ، وسط كل هذا كان انتظار أبيه العائد من صحراء ليبيا قريبا ، وعليهم أن يفسروا له الأمر من موت الأم واختفاء الرضيع .. وأخذوا يعدون العدة لاستقبال الأب بالدموع والبكاء على الميت ، وأن رحلته التي طالت منذ كانت زوجته حاملا في المهدي قد تغير وقتها الكثير والكثير ، وأن زوجته ظلت وفية مخلصة حتى أتت المنية .. الموت حق وهو رجل مؤمن ومصلي ويعرف ربنا ..والبعض قرر أن يخفي عنه أن زوجته وضعت جنينا يجيد الغناء والتنغيم وتكلم في المهد ، ولكن آخرين خافوا أن يكون قد وصل له أمر الصغير عبر رسائل البريد.. ولكن المدهش أن الرجل أراحهم من هذا كله عندما وصل خبر إليهم أن الصحراء ابتلعته ، ومات دون أن يُعرف مكانه ..
لم أكن أعرف الكثير عن تلك الحكاية الغريبة وأنا أدلف إلى حارة العشاق لأتخير لأول مرة مسكنًا في حي غريب عني .. سمعتها من شيخ الزاوية عدة مرات ولم أصدق ...
حتى عندما قال شيخ الزاوية أن اللحن الذي أعزفه بفمي كل يوم يكاد يكون هو نفس التنغيم الذي كان يصدره المهدي ، كنت أضحك وأقول لنفسي : يا للحكايات !..
محمد إبراهيم محروس