دروب مريم..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

The image “http://www.doroob.com/wp-content/images/userimages/upload/2009/02/suad.jpg” cannot be displayed, because it contains errors.


تقف أمام بيتك تتأمل عن يمينك وعن يسارك ، ترى واجهات المحلات المغلقة والأخرى التي على وشك أن تغلق أبوابها ، يأتيك صقيع المساء كلسعات الإبر ، تتأمل وجه السماء وتتوقع أن تهطل بمزيد من المياه ، تعشق المشي عبر الشوارع التي غسلتها الأمطار ، رائحة الجو المشبعة بالرطوبة تأسرك ، تمتص الهواء بفتحتي أنفك وكأنك تعبئ رئتيك بعبير الحياة ، تبدأ في المشي بمحاذاة الرصيف ، تقفز فوق أحجار وضعها الناس ليمروا بين البيوت الواطئة في ذلك الحي المغرق في بؤسه ، تتذكر مريم وموعدك معها ، تدرك أن الوقت ليلا ، وأن البرودة غير محتملة بينما يلم المقهى كراسيه للداخل ويلف المعلم المكان بسرادق من المشمع ليحمي زبائنه القليلين من هجمات البرد ، تريد أن تتوقف دقائق لتعطي لنفسك فرصة للتأمل ، تريد أن تدخل للمقهى ربما جذبتك أنفاس الشيشة إلى خيال ترغبه الآن ، تشعر بالخيال يهرب مبتعدا بينما تأتي الحقيقة مؤلمة وحارقة .. مريم ..
حلمك الذهبي في عصر ضاعت فيه الأحلام، موعدك المقدس معها منذ ثلاثة شهور عندما تغرق شوارع الحي في الظلام، ولا يكون هناك غير المتسكعين، والهاربين مثلك من الوهم.. تتذكر أن كل شيء بدأ معك منذ سنوات بعيدة طفولة وصبا، حب ينمو بطول الأيام وتسارعها، حب يغلف قلبك بنور غريب لا تدري من أين يبدأ أو من أين ينتهي.. مريم وحيدة أبيها .. ذلك الشيخ إمام المسجد، والذي كان يجذبك صوته للترتيل خلفه في خشوع هل يرضى عن ما تفعله بابنته الآن، هل يغفر لك؟!.. ولكن ماذا كان بيدك غير هذا لتفعله.. تساءل نفسك وتحاكمها ، منذ ثلاث سنوات عقدت قرانك على مريم ، في فرح شعبي تراقصت حولك أنغام الحب ، منذ ثلاث سنوات وأنت تبحث عن شقة مثل بحار يبحث عن قارة أخرى .. مثلك والجنون يفترش عقلك من الأسعار ومن الارتفاع الرهيب في كل شيء ، تلعن الحديد ومن يحتكره ، تلعن الشوارع التي ضاقت بأهلها ، لا تتذكر سوى مريم وحنين رهيب يجرفك إليها ، مريم التي تعيش مع عمتها التي أصرت أن تأتي لتعيش معها ربما هربا من مكان أشد فقرا أو طمعا في شقة أخيها .. المطر يبدأ معلنا استمرار قسوة المساء .. صوت يأتي إليك من داخل نفسك يدعوك للتمهل ربما تكون عمتها ما زالت ساهرة.. تتأمل يديك اللتين ابيضتا من شدة الصقيع ، وتضعها في جيبك لتصطدم إحداهما بقطرة " البريزولين " التي تحتفظ بها دوما في جيبك تحسبا لوجع العين الذي يصادفك مرارا .. تقف فجأة شاعرا ببرودة مهيبة ، تتصور عمك الشيخ أبا مريم واقفا ينتظرك على باب البيت ، يمنعك من الدخول منعا للشوشرة وكلام الناس ، تتساءل وهل سينتهي الناس عن الكلام يوما ما؟! .. تتذكر صبيحة التي تحاول أن تحتك بك دوما في دخولك وخروجك على سلم العمارة والتي دوما تحاول أن تلصق جسدها بجسدك أثناء حديث عابر، بينما تخفي أنت وجهك في الأرض خوفا من خطأ ربما يجذبك نحوه جوع بشري.. تمشي ببطء .. تقترب الأفكار وتهرب من خيالك .. تتذكر الأمر كله وكأنها متاهة تدور في عقلك ، ترفع يديك تصد عن عينيك شبح الشيخ ، وصوته الجياش يأتي عبر ذاكرتك مسبحا ، ومرتلا ..
تهمل كل الخطوات المبعثرة للبشر على صفحات الطريق، تتأمل حياتك نفسها، وتتمنى أن تكون العمة نائمة، ومتاهة غريبة تأخذك وكأنما تدور بك الأرض في رحى معركة ذهنية رهيبة، الضمير..
كم يثقلك ضميرك الآن ، وكم يؤلمك ، تشعر بالخيانة بداخلك ، تقارن بين حالك الآن وحالك منذ شهور طويلة وأنت تدور في متاهة مريم ، وطلباتها ، وصوت أبيها الذي يأتي هادئا : هل من جديد ؟
تهز رأسك بضعف أمامه : ما زلت أبحث عن شقة ، وأفكر أن أجرب برنامج رمضان الذي يمنح شقق للعرسان .
يضحك الشيخ ويطمئنك أن الحياة أبسط من هذا ، وأنك في وقت ما ستصل لما تريد ، دون هبات من أحد ، وخصوصا لو كان هذا الشخص ..
تضحك من نفسك وأنت تضرب المياه بطرف حذائك مطرطشا على بنطلونك ..
يقترب بيت مريم منك وكأنه هو من يسير إليك وليس العكس ، تتأمل العمارة في هذا الوقت وتطمئن نفسك أن الشارع خال من البشر ، تهمس لنفسك بأدعية ، تتذكر كلمات مريم :صاحب العمارة يريد طردنا ، لا لن أتزوج قبل أن تمر سنة على موت أبي ..
متاهة مريم تجذبك مرة أخرى .. إصرارها ،حماستها، شغفها بالحياة، قصة الحب الطويلة، شمس الخريف، وقمر الشتاء، وكراسي الكورنيش التي تشهد على مسيرتكما في الحياة.. العشق الذي يطفح على وجهك ، تلامس الأيدي في لحظات وجلة ، خفرها ، همسها ، ضربات قلبها المتسارعة عندما تخطف منها قبلة عارضة ، شوق الأيام الذي يقتلك ويقتلها ، الخوف المرابط في الأحشاء من الزمن .. ذكريات طويلة وأنت تدلف بجسدك بسرعة من باب العمارة، ورنة المحمول إليها، وخطواتها المتئدة إلى الباب وهي تفتحه في وجل، هامسة: أتأخرت؟!
- المطر..
تسحبك من يدك إلى غرفتها، تميل شفتيك إلى وجنيتها تخطف قبلة سريعة، تضحك وهي تضع يدها لتمنع علو الضحكة
- عمتي نائمة !
تدلفا سويا لغرفتها، تغلقان الباب بالمفتاح، تتأملها، تتأملك تمسح قطرات المطر عن وجهك بشفتيها، تغرقان معا في الحب..والربيع يشرق بداخلك ، تكتم حرمانها وعواطفها خوفا من افتضاح الأمر ..
تشعر بالسرقة، ينتهي الأمر بينكما وهي تهمس: خائفة لو علم صاحب البيت لطردنا منه.
يأتي صوتك هامسا : أنتِ زوجتي ..
يأتي صوتها في ضعف : ولكننا أمام الناس لم نزف بعد ، ما زلنا في حكم المخطوبين ..
تضرب جبينك بيدك في قسوة، تخرج بعد قليل متسللا كما جئت.. ترفع رأسك للسماء وترى مزيدا من السحب، بينما تتمثل لك صورة صبيحة وهي تحتك بك ، وصوت الشيخ ، وكلام الناس ، ودروب مريم تمتد أمامك بلا نهاية ..