على حدود وصف  

Posted by: محمد إبراهيم محروس








بدأ كل شيء كما يحق له أن يبدأ فعلا، الحياة، الموت، الترقب.

لحظات وتتهيأ ليّ الدنيا أنها دنيا ، وتبدو ليّ الأشياء على طبيعتها ، لا أعرف كيف أبدأ معك الحكاية ، وهل ستسمعني حتى أنهيها أم ستقف زاعقا في وجهي أن أكف عن الكلام دون فائدة ، اعتدت أن أثرثر مع نفسي ، أن أحكي ليّ كل ما حدث في يومي بطريقة أو بأخرى ، قد أحكي بصوت مسموع وأنا أمشي قاطعا شوارع مدينتي النائمة في هدوئها الأبدي الذي للآن لم يستطع أي تكاثف سكاني أن يقطعه ويمزقه ، فيظل الهدوء في ليلها هو حلمي الطويل.

التقيت اليوم بأديب ممن يحتفي بهم المجتمع الأدبي ويعلقون على رؤوسهم أقواس النصر،لا شك أن طبيعته أعجبتني،ولكنني دوما وبطريقتي التي تبدو دائما غير لافتة للأنظار أظل بعيدا عن مناطق تجمع الأدباء،أراهم بعين غير عينيّ ،أرى أن أمامهم الكثير ليتعلموا فنون الحكي والسرد،وأنا الذي أغزل خيوط الحكي بمهارة طفل يداعب ثدي أمه قبل لحظات تشبثه به،أعرف من أين يجب أن أبدأ أي حكاية ومتى يجب أن أتوقف عن سردها،ليس نوعا من الغرور بقدر ما هي هبة لا أعرف هل استحقها أما لا،وأدرك جيدا أنني سوف أموت دون أن ينتبه أحد أن أديبا مرّ من هنا،أو أن إرهاصة كاتب كان من الممكن أن يكون شيئا ما في المستقبل ؛قد راحت بسبب انزوائه الدائم وهدوئه المنغلق على نفسه،لا أريد أن أعاقب نفسي على جزء حقيقي منها،العصبية الدائمة التي تملكني عندما أرى من لا يستحق في مكان من يستحق،ليس أنا بكل تأكيد فأنا آخر شخص أفكر فيه،ولكن ما لفت نظري اليوم في لقائي بهذا الأديب الأريب -لو صح التعبير في فذلكته- أنه كان يهتم حقا بيّ ، يشعر بي وبوجودي الحقيقي وليس الجسدي،وكأن هناك إشارات متبادلة بيننا عبر فضاء المكان الذي جمعنا.

كانت تلتقي عيناي في عينيه،ويظل محدقا في عيني لبرهة دون الآخرين ربما شيء فيّ جذبه إليّ،ما هو تحديدا؟ لست أدري.. الجميع يجمع على أنني شخص مناسب لاستمرار الحدوتة بين يدي أبناء الأقاليم ، والبعض يرى أنني نواة تصلح لشجرة مثمرة،المشكلة في أنا،أرى أنني بعيد عن كل هذا..

مناقشة الرجل لروايته وكلماته كانت تحمل ليّ عنوانا أشد غموضا منه، تقريبا طاف الكرة الأرضية،تجول في بلاد الله كثيرا،رسم بقلمه خطواته عبر تلك البلاد،عندما أهداني روايته وتوقيعه خيب رجائي ،وهو يطلب منيّ في إلحاح غريب أن أرد عليه بعد قراءتها للأهمية،فما الذي فيّ ليس في الآخرين حتى يهتم بيّ،دخلت حلقة المناقشة صدفة وبطريقة لم أعرها أدنى اهتمام،كنت احتاج لشراء علبة سجائر؛ أحرقها في صمت بعد شهور من الإقلاع،كنت أحتاج لفترة من الاجتياح النفسي لنفسي ، كانت كلماته على الرواية بخطه تبدو ليّ منمقة ومزخرفة وهو يكتبها،ويكتب " ميله الالكتروني " مترجيا مني أن أرد عليه في أقرب فرصة .. من هذا الرجل.. لم أعرف اسمه من بداية الجلسة لأنني وصلت متأخرا؛ فلم أكن أعد العدة حقا للوصول،كل ثلاث أو أربع سنوات أذهب مرة واحدة لهذا التجمع؛بغرض واحد.. هل وصلوا فعلا لشيء جديد؟ هل خرج جيل آخر من الشعراء والأدباء ؟

قاطع ندوته بغتة كاتب أراه دوما أحمق، قال: لقد استمتعنا بك يا أستاذ وبكل حواراتك أرجو أن تستمتع أنت بنا بعض الشيء وتسمع منا بعض ما نكتب.

الرجل برغم أن الندوة كانت عنه وعن أدبه ،بأخلاق عالية،قال: بالطبع يسعدني هذا ..

وقفت وقتها امرأة راحت تغزل خيوط شعر لا أتابعه بقدر ما أتابع تأثيره على وجه الرجل،مال الأحمق الظريف بعدها وهو يشير لي: أنت اسمك بالكامل إيه ؟

استغربت السؤال فهو يعرفني جيدا من قبل ويعرف اسمي، ولكنني أجبته دون أن تغادر عيني مكانها في عيني الرجل، بعد وهلة قال الأحمق: نرجو من الأستاذ فلان أن يقرأ علينا آخر ما كتب..

توقفت قليلا عند اسمي الذي نطقه الأحمق باستظراف محكم،وكانت لحظة غبية منه ليّ،وكأنه يتحداني في مباراة مصارعة.. لم يكن معي ما أقوله،وبالطبع من المستحيل أن تؤلف قصة شفاهي، ولكنني طلبت منهم عشر دقائق فرصة.. فقد قبلت التحدي ، قبلته من أجل ذلك الرجل الذي لم أكن أعرف بعد اسمه كاملا،أخرجت من جيبي ورقة مطوية بها أرقام تليفونات،وطلبت قلما من جارتي،ورحت اكتب قصة على الهواء وعزمت على تمزيقها بعد الإلقاء،وفجأة وجدت بؤرة الحكايات تتسع أمامي لأملأ الوجه الفارغ من الورقة بكلمات وجمل ظننت أنها قصة صالحة للموقف؛حتى لو كانت ضعيفة،فالرجل كان يتابع ما أفعله وأخطه في استغراب..ربما مثلهم توقع الفشل ليّ،وتوقع أن أقف موقف التلميذ الخائب وسط أدباء حرفتهم الحقيقية الكتابة،بعد ثمان دقائق كنت قد انتهيت من قصة وصف .. وصف بكل جنونها وحبها للحياة،وصف باعوجاج فمها وهي تنطلق الكلمات في دلع ودلال،وصف وهي تتلقى أول قبلة وتهرب من بين أنفاسها ألاف القبلات،وصف التي لا أذكر الآن كيف كتبتها،وكيف كانت وصف ..

وقفت متأملا نفسي،لأول مرة في حياتي أشعر بأنني على حافة امتحان ، وأنني مستعد للرسوب وأن سنوات انشغالي وبعدي عن شلة الأدباء قد أضعفتني وأضعفت قلمي ومكانتي،لم أشعر إلا بأول كلمات القصة تخرج من بين شفتي،ولسعة برد جارفة تجذبني ولا أعرف هل هي تأتي من داخلي أم من الجو،بعد مدة بدت لهم ثواني طاوعتني الكلمات وراحت تتدفق من بين فمي،مستسلمة لنظرة عين لا أراها،وساد المكان هدوء غريب أحسست أنني أحلق مع وصف،أطارد عصافير الجنة،أذبح الضفادع لأستخرج من بطنها خاتم سليمان،يقف جني الكتابة ضاحكا ، وأنا أدور بالكلمات بين شفتي ويسود الهدوء،شيء لا يقطع خلوة المكان ، ولا يقطعني،شيء يضيف للحكاية مسارات أخرى،شيء يجعل ما كتبته في ثماني دقائق نظما لا أعرفه،لتخرج وصف؛لتحلق فوق رؤوس الجميع ، تفرد أجنحتها محلقة لأتحول معها إلى فراشة جذبها النور إليها ، ويأتي صوت الأديب عبر عقلي لا تتوقف حتى تنتهي،لا تتوقف .. ويظل السرد محكوما بشخص غيري،شخص يملي علي ما أقوله،شخص يقرر أنه البطل الحقيقي للأشياء،ما أبدعك يا وصف،لم تخذليني، ما أبدعك.. بعد دقائق قليلة توقفت .. لأكتشف أنني هبطت مرة أخرى للأرض وسطهم ، والتصفيق يدوي بشدة ،تصفيق حقيقي،غير متوهم لمحت تلك الغمزة من عيني الأديب الكبير،وكأنه يقول أنت لها ..

ضحكت كثيرا وأنا أودعه وهو يراني أمزق الورق بما فيها من نمر تليفونات والقصة،فما كتبته يخصه هو ووصف، ووصف لا يجوز أن تكون كلمة مجردة في قصة مهما كان كاتبها حتى لو كنت أنا صانع الوصف..

شوارع سالم  

Posted by: محمد إبراهيم محروس


شوارع سالم..

لا أعرف لماذا اختار شوارع سالم لتكون بداية لقصتي هذه ، ولكنها هي من بدأت من عندها الحكاية ، شوارع سالم منطقة أعرفها وأحفظها كظهر يدي ، عشت فيها مجمل حياتي متنقلا من مكانا للآخر بانسيابية ثعبان حاذق ، طفلا مشاكسا كنت ، طفت شوارع سالم كما يطوف النسر حول فريسته ، اقتنصت منها لحظات حياتي تقريبا ، هبطت إليها من أعلى ، من منطقة شرقية في حضن الجبل حيث الهدوء الذي تتنفسه كل صباح ، كانت شوارع سالم مكتظة بمئات من الأشكال والبشر ، في تلك المنطقة من شوارع سالم وفي بلوكات قديمة انتشرت حياة جديدة عليّ ، وبالنسبة ليّ كانت جديدة كل حياة ، في وقت تمردتُ فيه على حبسي في البيت تهربا من اللعب مع العيال؛ لأنني كنتُ أبدو أمامهم ضعيف الحيلة ، وكنتُ معرضا دوما لعلقة من أي أحد في معاركي التي أدمنتها ، وكانت أمي شديدة الفزع عندما تراني مصابا بجروح جديدة ، ولكنني غلبت أن أفهمها أنها ضريبة التواجد في شارع سالم .

في تلك البلوكات نبض داخلي نبض جديد في الحياة، كنت في العاشرة وقتها من العمر، أطوف الشوارع كالمجذوب يبحث عن شيء ما ، لا أخفي عليك أنني كنت أعبث في القمامة وأستخرج من وسطها ألعابا عديدة، أخرها كان سيارة "أتومبيل " نحاسي كدت أن أموت وأنا أوصل له سلك كهربائي، وأوصله " ببرايزة" الكهرباء، لينتفض جسدي بشدة مرتطما بحائط غرفتي ، وقتها منعتني أمي عن النزول للشارع لمدة بدت لي أطول مما ينبغي ،ولكن المدهش حدث ليّ بعدها، بعد أن تسربت الكهرباء إلى جسدي ، فجأة أصبحت أمسك أسلاك الكهرباء بيدي دون خوف ودون مبرر ، وكأن جسدي تحول إلى شيء خاص آخر ، كل هذا ليس بمهم قدر أهمية شوارع سالم ليّ ، وحي الأفرنج ، حيث يقبع في نهايته بلوكات القوات الدولية التي كانت ما تزال مرابطة في بلدتنا بعد الحرب ، يومها وفي أحد المعارك مع أحد أبناء عثمان بائع الذرة ،والذي كان معاق ذهنيا ،وبعد أن أمتعني بعلقة خاصة وجدتها أمامي وأنا مطروح على الأرض ،طفلة مثلي، تكبرني بشهور قليلة أتت مع أبيها وأمها ، الذين كانوا ضمن قوات حفظ السلام الدولية ، لم أشعر بكم الألفة التي شعرت بها يومها مع أي كائن آخر في الحياة ، كانت بيضاء ، بياض لم أره ولن أراه في حياتي بعد هذا ،عينان زرقاوان واسعتان ، قامة مشدودة في قوة واعتداد ، دفعت هي ابن عثمان عنيّ ، وضربته وهي تشتمه بألفاظ لم أفهم معظمها ، حينذاك بدوت أمامها كشيء آخر لا أعرفه ، فقدتُ كل الشقاوة المحبوسة في دمائي وأنا أهمس لها شاكرا ، بينما تهزّ هي رأسها وترحل ، أصيبتُ بعدها بمرض غريب؛ كنت أشاكس الأطفال بعنف وشدة وأسحبهم إلى أسفل بيتها؛ كي يضربونني ، بينما أحدق أنا إليها مستغيثا بها ، تهبط بعد تؤدة ، وقد سحبت في يدها كلب أبيض " لولو" اسمه شاكي ، تنهر العيال وبطريقتها الغريبة، يخشونها ويهربون ، وأظل أنا أحدق في وجهها في وله ،يوما بعد يوم عرفتْ دائي وعرفتْ دوائي ، بينما كان أبوها يتركنا أحيانا نلعب ضاحكا ، وكأنه يشعر بحاجتها إلى دمية خاصة ، بعد فترة كففتُ عن هذه اللعبة المميتة والتي كادت أن تهلكني .. أصبحت شوارع سالم بكافة ناسها مجرد ذكريات ، بينما ظل حي الأفرنج مساري الدائم إلى بيتها ، خطواتي التي أعرفها وأحسها جيدا ، جسكا ، كان اسمها ، تعلمتْ بعض العربية هنا ، تهمس أحيانا ليّ : أنت جبان ؟!

أخاف أن أجيبها، انسحب من أمامها فزعا من تصوري نفسي جبانا، أخاف علي نفسي من الخوف، أرى في عينيها أحيانا تساؤلات عديدة.

أسحبها إلى غابة البوص لنسلخ أعوادا منه ونهبط إلى الحلقة لنصطاد سمك،تتحرك حولي ولا أشعر أنها تتحرك ، تتأمل السمك الذي نصطاده ، وتعيده لمياه الحلقة بعد فترة ، ضاحكة ،أدمنت اللعب معي وأدمنتها ، كنتُ أحاول كل يوم اختراع لعبة جديدة؛ لتشدها نحوي ..ولكنها هي هذه المرة من اختارت اللعبة .

وبدأت لعبة أخرى تظهر في حياتي بغتة ، كانتْ تملك قفازين ملاكمة ، وكانت تدعوني دوما إلى أن أرتدي أحدهما ، وأدخل معها في شوط طويل أخرج منه وقد أحمرت عيناي ، وارتج مخي في رأسي ، كانت تضحك وهي تقول كلماتها العربية القليلة وتصبها في أذني : أنت جبان ؟!

لم أعرف للحياة وقتها طعما سوى نظرات عينيها الخائفة أحيانا ، والمرتعشة أحيانا ، والولعة أحيانا عليّ ، أتذكر أصابتها المباشرة في رأسي في أحد الجولات ، وأتذكر وقوعي على الأرض الآن وكأنه كان بالأمس ، وأتذكر شفتيها وهما يقتربان من وجنتي لتطبع قبلة سريعة معتذرة ..

أتذكر دبيب العشق في روح طفل صغير كانت تحمله شوارع سالم إلى فوق وفوق..

وجاء اليوم الذي لم أكن أحسبه ضمن الأيام ، كنت ارتدي قفازي الملاكمة ، وأحاول أن أحافظ على وجودي واقفا أمامها ، تلقيت عدة ضربات ،ولكنني قاومت الوقوع ، الذي لم أتصوره أن يقتحم ابن عثمان السور ويهبط بيني وبينها ، ثم يضربها بيده؛ لتقع أمامي على الأرض وهي تصرخ ، وأقف أنا أمام ابن عثمان موقف الخائف لأول مرة أتذكر كل "علقاته" ليّ .. أضربه في وجه بعنف بقفازي الملاكمة ، يشتد الجنون أمامه ويجز على أسنانه قبل أن يهبط علي كالطوفان ، انهالت ضرباته علي بجنون لم أتصوره قط ، وانهارت مقاومتي بعد لأي ،آنذاك كانت "جسكا" تحاول الوقوف ، ولكنها تعرضت لضربة قوية من ابن عثمان الذي فر بعدها هاربا ، تاركا أثار على وجهينا وجراحا للزمن .. يومها نظرتْ ليّ جسكا نظرة غريبة ..

وهي تقول : أنت جبان ..

بعد فترة حاولت الرجوع إلى بيتها، حاولت أن أسلم على أبيها، والذي لم يعطّ لي أدنى اهتمام، وكأنه عرف أن ابنته ملت لعبتها..وكأنه هو الآخر متفهما لطبيعة علاقة ابنته بي وانتهائها .. وأخذت الأيام تدور؛ لتختفي جسكا من حياتي ..وتختفي بلوكات قوات حفظ السلام ، وتتغير شوارع سالم بأهلها وسكانها ، وتختلف الوجوه ، ولكن دوما أتذكرها وأنا أقطع شوارع سالم عندما تصطدم عيناي بابن عثمان واقفا أمام عربة خشبية يهز منشة خاصة أمام وجهه ، وتلتمع جمرات الفحم ، وتطقطق حبات الذرة ، وأميل عليه هامسا :فاكر جسكا ..

يأتي صوته فرحا وسط جنونه: ضربتها صح، ضربتها صح وضربتك، أنا بطل ضربت الانجليز..أنت جبان تلعب مع الانجليز .

أناوله جنيها وآخذ كوز الذرة ، وأنا انسحب ضاحكا بالمثل ، ووجه جسكا وعينيها الزرقاوين يلمعان وسط شوارع سالم لمعان طيف ..وأنا أهمس لنفسي : صح ..أنا جبان ..



قاتل يا أنا !  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

http://www.elbadeel.net/images/stories/cartoon/ghaza_t7trk.jpg

يتصاعد الألم بداخلي دون سبب ،أشعر بنفسي كبركان على وشك الانفجار ، الرؤى تتبادل وتتراقص في ذاكرتي ، لا أشعر بالانتماء لأي شيء ، فقد مجرد إحساس متخم بالضياع .

صباحا، مساء، بعد ظهر يوم قارس البرودة، أشياء تبدو وكأنها مرصوصة في ذكريات الزمن المتجمدة بالحسرة على أيامي المملة الرتيبة، أتنفس الحياة وأرفضها، أناقش خلايا جسدي في شعورها الطبيعي بالامتنان أنني ما زلت حيا..

أفتح جريدة الصباح تصطدمني الصور المتتابعة ، أضرب وجهي بكلتا يدي ، تلتهب وجنتي من عصف التصفيق عليهما ..

ما زال بداخلي هذا البشري الذي يشعر وأنها لكارثة، الدموع التي تجيش في نفسي وتبدو وكأنها تقبع تحت جلدي نفسه، لا أعرف حقيقة أي أمر من أمور السياسة، ولا أدرك الفرق الطبيعي بين الموت والحياة..

سمعتهم يقولون إنهم يموتون دون سبب أو جريمة ، وسمعتهم يقولون إن الموت يأتي بشرف مستحيا من نفسه عندما يستقبلونه وهم يرشفون الشاي في بلكوناتهم ، متطلعين لأعلى للطائرات والقنابل التي يتواصل رنينها عبر أسماعنا ، ولكن من الواضح أننا لا نملك أذان ..

قال صديقي: لم استوعب الأمر بعد، لا أعرف كيف يموت الناس بهذه البساطة..

بحثت في داخلي عن مبرر يمنعني من الصراخ.. يأتي الهسيس عبر النفس والرنين المجوف لي .. اكتشف بعد وهلة أنني أصبحت إنسانا مجوفا، ربما مات بداخلي أنا أيضا الحياء.. سمعته يقول ببساطة متناهية عبر المذياع أي شيء يا عرب يحمينا، أي شيء.. مددت يدي للفضاء، للسماء ، أبحث عن ملك الموت ربما يأتيني الآن ،فاكف عن الألم ، ويقتل بركاني النفسي المدمر أخاف على نفسي مني ، أخاف أن أسبح مع التيار لأمزق نفسي بسكين حسرة وخوفا وضعفا ، أي ذل يفوق هذا الذل أي ضعف يفوق هذا الضعف .. أي حياة أستحقها وأنا أحمل بداخلي كتاب الله وسنة رسوله..

رسالة إلى نفسي.. أكتبها وأحاول أن أرسلها، ولكنني أكتشف أنني أضعت عنواني.. تركت الحياة وأنا حي أرزق، هل الخوف على لقمة العيش، أم الخوف من السلطة أم الخوف من الحياة..

الخوف لمجرد الخوف ، أفواه مكممة ، وعيون معماء ، والقتل مباح يا أنا .. القتل مباح ..

يأتي صراخها عاليا، أين أنت.. أين أنت.. أتذكر رحلة لي على حدود رفح المصرية ، وكيف قسمت فعلى الجانب المصري أسرة مصرية من جدة وحفيدة ، بينما ابنتها على الجانب الآخر ، وعلم إسرائيل خفاقا يرفرف على أحد المباني وكأنما الحياة أصبحت تقتل حتى رؤيتي .. جحيم اللحظات والمرأة تريد مني أن أزعق بصوتي لتسمعني ابنتها على الجانب الآخر .. جحيما أن يفصل الحي عن الحي سور وأسلاك شائكة، وعلم مدموغ بدماء الأبرياء.. ملعون يا أنا.. ملعون يا داء الخرس، ملعون في كل كتاب.. القتل مباح يا صديقي وأنا مثلي مسجونا في وطني، مكبل مثلك، قاتل وقتيل.. قاتل يا أنا.لا أريد أن أتكلم عن منظر الدماء يكفيني ما ارتوت عيني وقلبي منها ، يكفيني ما سكن منها في جراحي وقتلني ، يكفيني رؤيتي لنفسي أتمزق حزنا وألما ، يكفيني أن أصرخ وأصرخ وأصرخ ، وتحطم راحتي وجهي .؟..ألطم كالنساء ..ألطم كالنساء .. بينا يردد آخرون .. أنك غبي..لأنك ما زلت إنسانا.