طقوس للموت  

Posted by: محمد إبراهيم محروس

قامت وهي تتسلل علي أطراف أصابعها حتى لا تزعج نوم أبنائها الصغار..دخلت إلي حجرة مكتب زوجها.. حملت كتاباً بين يديها وراحت تقرأ.. فجأة استرعى انتباهها " أجندة " صغيرة لزوجها كانت مختفية وراء أحد الكتب.. أخذتها لمحة فضول لمعرفته ما بداخلها .. مدت يدها وأمسكتها بين أصابعها وراحت تقلب أوراقها ثم توقفت علي عنوان غريب جذبها . وبدأت تقرأ

" طقوس للموت"


في طفولتي كان أبى يصحبني معه دائماً إلي تلك الليالي المفعمة بالحركة والصخب ، ولكنه كان صخباً عنيفاً مزعجاً أخذ من طفولتي براءتها الأولى

. كانت ليالي أبى كلها عزاء فهو كمتعهد لإجراءات الدفن – يعتبر صاحب باع طويل في نقل الموتى وتغسليهم.

كنت أذهب معه وفي قلبي فرح لا أعرف كنهه؛ فأنا من كثرة ترددي علي الجنازات ،أصبحت أعشق رائحة الموت .. أعشق طقوس الموت الخاصة ، فعندما يبدأ النواح ولطم الخدود وشق الثياب كنت أزداد طرباً ، كان ما يجذبني أكثر هو شق النساء لثيابهن فتظهر صدورهن عارية أمامي وأنا اختلس النظر وأزيد التحديق ،حتى أظن أن عيني قد خرجتا من مقتليهما .. دائماً أقيم في حجرة العزاء المخصصة للسيدات.. تدخل النساء وهن يحملن صوان كبيرة محملة بالأرز واللحم كعادة الفلاحين الدائمة في الحزن والفرح. لم أتذوق أبداً لحم العزاء .. هناك هاجس بداخلي أنها لحم الميت نفسه .. طفلاً عابثاً كنت.. الكثير من النساء اللاتي حضرت جنازات أزواجهن تزوجن مرة ثانية وذهبت لأفراحهن لكن الأفراح لم تكن تجذبني ولا يشغلني تذوق الشربات ولقد كان طعم القهوة السادة هو المفضل لي . أسمع عبارات الثناء والامتنان وذكر محاسن الميت وأتلذذ بحديث النسوة حولي وضبطت نفسي أكثر من مرة متلبساً بمتابعة أسرارهن وأحاديثهن وخفايا حياتهن ، كلما زاد عدد الموتى زاد سروري فبذلك أحصل علي جلباب جديد ومبلغ أشتري به حلوى وأعد نفسي لكي أغوص في بحر من القهوة والصدور العارية .
جنازة " حسن الباشا " أروع حدث شهدته في حياتي، يومها رأيت ابنته للمرة الأولي كانت في مثل سني أو تصغرني قليلاً.. تبكي بحرقة وتلطم خدّيها وتصرخ صرخاً يمزق نياط القلوب وهى تعدّد وتنوح ومن حولها يرتفع النواح فيزدني فرحاً .
رحت أنتقل بين النساء محاولاً أن ألفت أنظارهن لي، ولكن هذه المرة كنّ في حالة حزن حقيقية.. بعض الحزن الذي رأيته في حياتي مزيف .. فبعض النساء يشتد صراخهن لغرض المجاملة فقط أو لتذكرهن قريباً مات منذ زمن بعيد .. ولكن .. " حسن الباشا " شخصية مختلفة ، فهو رجل بر، معظم أهل القرية استفادوا منه ومن عطاياه .. كان يعطي بدون حساب هو من أقام لنا ذلك المسجد المطل علي الترعة الغربية ، هو أيضاً أول من أنشأ مدرسة بالقرية .. رحمه الله .. خرجت وقتها من غرفة الحريم قاصداً أبي كي أساله عن ابنة " حسن الباشا ".. تأملني ساعتها كثيراً وقد لاحظ أنني ازددت طولاً وأخشوشن صوتي.. وقال لي : ما شاء الله .. بقيت راجل وبتفكر في البنات وأردف قائلاً : روح لأمك دلوقتي خليها تجهز كفن كويس .. هاته وتعال.. قصدت بيتنا مسرعاً .. وجدت أمي تجلس – كعادتها – بجوار الفرن تقذف بفتحته غصناً طرياً ليزداد اشتعالاً نظرت ناحيتي قائله: إي اللي جابك يا واد..

أجبتها . أبويا

.. ضحكتْ .. فأضفتُ قائلاً : أبو يا عاوز الكفن الحرير لـ " حسن الباشا "..

نظرت باتجاهي وهي مستمرة في الضحك وأنا أتحاشى نظراتها ولم أكن أعرف لماذا ..
ثم قالت : خشّ جوه تلاقيه علي السرير خذه وبطل تنطيط .. وروح لأبوك بسرعة ولاّ الراجل ح يفضل مستنيكو طول النهار عشان يندفن ..

حملت الكفن باليد اليسرى وأنا أمسك باليمنى رغيفاً ساخناً غافلت أمي وأخذته ورحت أمزقه بأسناني والتهمه في طريقي لبيت " حسن الباشا " .. أوقفني لعب الصبية قليلاً .. نظرت إليهم كأني أصبحت شخصاً آخر، فمنذ دقائق قال لي أبي كبرت وأصبحت رجلاً..
نظر لي أحدهم وأخذ يهتف: ابن الحانوتي أهو ..

ابتعدت عنهم وأنا أسبهم وألعنهم في سري.. دفن حسن الباشا وأقيم له سرادق ضخم .. بعدها تعودت التردد علي بيت " حسن الباشا " فعرفت " هـدي " ابنته ومع الوقت أدركت أني أحبها – بل أعشقها عشقي للهواء ذاته – ومن معرفتي السابقة بطباع النساء أصبحت كالسوس الذي ينخر في عظامها وازداد تعلقها بي . جذبتنا حقول الذرة كي تشهد علي أول قبلة لنا واستهوتنا تلك اللعبة الملعونة فرحنا نلعبها في قسوة وشهوة جامحة.. كنت كمن ينصب لها فخاً فوقعت فيه .. ولم أرحم طفولتها .. سرعان ما تبينت أنها حامل.. أبنه الأربعة عشر ربيعاً حامل.. !! يا لها من كارثة.. يا لله ..
امتلأت رعباً ولم أجرؤ علي مصارحة أبي بالحقيقة .. وأخذت أتحاشى المرور بجوار بيتها، وأتملص من لقائها.. ليتني ما كبرت .. رحت أضرب بعيني وأذني تجاه بيتها أحاول أن أتلصص أي حوار دائر وفشلت! أي أحمق كنت ؟! عدت يومها لفراشي، وغرقت في النوم المليء بالكوابيس المزعجة .. وحين استيقظت تحقق أفظع كابوس في حياتي.. ماتت هـدى .. ابتلعت سماً، وماتت تحمل سري معها.. طبيب الوحدة عرف سرها ولكنه أخفاه إكراماً لوالدها الذي كان له الفضل في تعليمه وصرح بدفنها .

عرفت وقتها المعني الحقيقي للموت.. ابتعت لها الكفن بنفسي .. كنت أسمع صراخ النسوة كعواء ذئاب تنهش في لحمي.. وأحسست باقتراب الموت ورائحته .. فللموت رائحة خاصة أعرفها جيداً .. كتمت أنفاسي وأنا أبكي وأخذتني غيبوبة طويلة تمتلئ برؤى وهلاوس متناثرة .. ظنت أمها أن ذلك من أثر تعلقي بابنتها.. أصبحت من يومها شرنقة آدمية لم أستطع أبداً أن أتجاهل أنني السبب في موتها.. أي قاتل كنت!

وهبتني حياتها .. ووهبتها أنا الموت .. كرهت كل سرادقات العزاء.. وهرعت أتنفس هواء محملاً بطقوس الحياة.

أغلقت " هـدي " الأجنـدة وهي تتـمم:
يا له من خيال جامح!!


1/6/2000

امرأة اللؤلؤ  

Posted by: محمد إبراهيم محروس



امرأة اللؤلؤ..
كنت معتادا على هذا الأمر منذ سنوات ، تقريبا في حينا هذا الذي يطل على البحر باتساعه الشاسع ، دوما هناك نوع خاص من الأشياء تحدث ، يخفيها البعض عن البعض ، وتدور بيننا في خفاء يكفي أننا نعرفها كلنا فلا داع لكي نطلق الحديث عنها دون فهم السبب ..
أحدوثتنا كلها أن تتم في خفاء .. البحر الذي لا يخفي سوى أسراره كان يداعبنا أحيانا ، كانت في أحايين كثيرة مداعبات غليظة مؤلمة ، فيأخذ منا أشد رجال الحي قوة وبسالة ..أو يأخذ مركب صغير بشراع لأسفله ولا يدلنا على أي أثر لها سوى بعد سنوات عديدة .. لا نعلم متى بدأ أحدنا يفتح فمه بالكلام عن البحر بتلك الصورة الجديدة .. كل ما أتذكره جيدا أن يوما ما في زمن ما أطلقت أسطورة عن فتاة أحبت شابا رفض عائلته أن يزوجوها له ، فهاجم الشاب يومها البحر بزورقه في صراع حتمي لا تعرف له سببا سوى الحب المغرق في الرومانسية .. ولكن البحر لم يعد بالشاب وعاد بالزورق فارغا ، جن جنون الفتاة ، وأخذت الزورق لتخوض بحارا كثيرة لتبحث عنه .. وعندما عاد الزورق مرة أخرى فارغا أيضا .. نصب حوله السكان سورا غريبا من الحجارة والأصداف .. ودخلوا قوقعة الذكريات قافلين أبواب عقولهم عن البحث .. بعد مدة حقيقة لا أعرف مداها بدأ يحدث ما يحدث ، امرأة بيضاء طويلة تعبر الشط في الليالي القمرية .. جسدها يضوي تحت عقود من اللؤلؤ بلا نهاية .. أصبح سرّ قرينا سرّا ، عندما فزعت عروس من نومها قبل دخلتها بيوم ، وذهبت جريا للشاطئ؛ لتفترش الرمل نائمة؛ تتطلع للقمر ، يومها حكت العروس لأمها كيف حصلت على حبات أول عقد من اللؤلؤ يدخل حينا.. حيث وقفت امرأة اللؤلؤ على رأسها وداعبت جيد الفتاة بيدها قبل أن تضع عقد اللؤلؤ في رقبتها ، وتغيب الفتاة عن الوعي لدقائق ، وعندما تفيق تجد العقد يضوي في رقبتها ، أخفى أهلها الخبر عن العريس ، ولكن في الليلة التالية وفي العرس لمع جيد الفتاة بعقد لؤلؤي فريد .. وكتمت الفتاة السر عن أهل زوجها ، وكتم زوجها السرّ أيضا عن أهله .. ولكن الغريب أن العقود أصبحت شيئا عاديا جدا في حياتنا بعد هذا، قبل أي زواج يحدث في حينا ، وفي ليلة الحنة ، يحدث ما يحدث ، وتتزين العروس ثاني يوم بعقد من اللؤلؤ .. الأمر كان مدهشا ، وحفظ في الصدور.. لا أحد يبحث خلفه ، ولا أحد يتحدث عنه ، أنه نذر سيدة اللؤلؤ ، الذي شاهدتها تقريبا وأنا في الرابعة من العمر أو السادسة ..
كانت اللآلئ تلمع فوق جسدها وتغطيه ، كانت بيضاء بعينين زرقاوين ، لا تستطيع أن تميز هل هي تكتسي بملابس مثل باقي النساء أم أن اللآلئ هي ملابسها ..
حفظت شكلها وطولها كما حفظها معظمنا ، حتى أسئلة الأطفال المعهودة في ذلك السن ، كتمت أمهاتنا أفواهنا ، وهن يتفحصن عقود اللؤلؤ المختفية في صوان ملابسهن ..
كانت الحياة داخل حينا كما هي ..الأطفال يكبرون ، ويحلمون ، يعشقون ، يحبون ، يخطف بعضهم البحر ، وآخرون يتزوجون .. لا زواج من خارج الحي .. الهدوء من كل شيء .. السكون .. القواقع مفترشة الرمل ، وصوتها الهامس في الآذان ، حبات اللؤلؤ التي تهدى للعروس ليلة زفافها ، التكتم ، ولكن حدث ما حدث دون قصد منا .. دون أن نفكر كيف يكون العشق في حينا .. يومها ..
جاءت الطبول تدق ، والرايات ترفع ، والكلمات تضوي ، سيرك المدينة الكبرى يقدم إلى بلدتنا ، سيرك المدينة الكبرى ، فتاة الضوء ، الأسود ، لاعبات الاكروبات، المشي على الحبل .. الساحر الرهيب ..
لم ننتبه وقتها سوى لأنه حدث فريد في حينا ، لم نستطع أن نرفض وجودهم ، أجل معظم المحبين زواجهم حتى يرحل السيرك ، وأخفت الأمهات عقود اللؤلؤ في باطن الأرض وخرجت مراكب للصيد ، وعادت مراكب .. وراحت فقرات السيرك تتوالى يوما بعد يوم ، الانتظار كان حلمنا ، لا نريد أن نلفت الأنظار إلينا ..وإلى سرنا ..
استمتعت مثل الآخرين بالأسود ، والساحر ، والرجل المطاطي ،أظن كان اسمه رماح ، أدهشني جسده وقتها؛ كيف يضع نفسه ككل في طوق لا يعبر من خلاله طفل صغير مثلي .. وكم كانت دهشتي رهيبة وأنا أرصد نفسي ليلا؛ أحاول أن أقلده؛ لأمرر جسدي من طوق عجلة وأفشل . أعتاد الأهالي أن يهبط بعض أهل السيرك إلى حينا لشراء أسماك أو عقود زينة أو للبحث عن طعام جديد لا يألفونه ..
برغم الحذر ، شاهدها يومها .. كانت تجلس في غرفتها ، سارحة في الخيال ، تتأمل بين يدها عقدها اللؤلؤي ، وتندب حظها لقدوم السيرك ليلة عرسها الذي تأجل إلى حين ، لم ترد أن تقول لأهلها أنها حصلت على العقد ليلتها ولكنها أخفته في صدرها ، تخرجه كل حين تعد حباته ، وتعود لتدسه في ثنايات الصدر .. ولكن في لحظة غفلة منها ، وعبر شباك موارب لمح العقد ، وابتسم لها ، لمحت هي عينيه اللتين بدتا لها أشد لمعانا وقوة من حبات عقدها .. وسحبها السرّ الذي لا يعرف من أين ينشأ ، فراح صدرها يخفق ، ويخفق ، وعيناه تبحران عبر عينيها في رسالة قدرية لا تعرف من أين تبدأ .. ليلها بدآ يتواعدان ، كان ينهي فقرته ، ويخرج الحمام من منديله ، ويقطع فتاة نصفين بالسيف ، ثم يلتقي بها في خلف الخيمة ، يتهامسان في عشق ُولِد غريبا .. الساحر يحب فتاة من حينا ، سرّ آخر ، كم يملك هذا الحي من أسرار ..
تسلل خبر الفتاة إلى أبيها في ليلة عاصفة ماطرة توقف السيرك يومها عن عروضه .. تسلل عبر صبي صغير شاهد قبلة بين الساحر والفتاة ..
ولمعت عيني الأب يومها بقسوة رهيبة وهو يضع في يد الصغير قرش فضي اللون .. ويرجوه أن يكتم الآمر تماما .. وأوفى الصغير ..
ولكن الأب هاجم الفتاة ، وضربها بعنف رهيب وكاد أن يقتلها لولا تدخل أمها وتعلق الصغير بقدميه متوسلا .. يومها حدث الأمر الذي حرمنا كلنا من سيدة اللؤلؤ ..
فقد اختفت الفتاة من بيتها برغم الأقفال التي أغلقها أبوها خلفه وهو يخرج قاصدا قتل الساحر ..
المدهش اختفاء الساحر أيضا .. قلب السيرك عنه ، وساءل الجميع ، الكل لا يعرف أين اختفى ولكن عندما عاد وجد الأقفال كما هي واختفت الفتاة ، تاركة عقدا من اللؤلؤ على سريرها ، يومها جن أبوها وراح يدور في الحي والعقد بين يديه يضوي ، يتساءل أين ذهبت ابنته ، دون إجابة .. ثم مزق حبات العقد ونثرها على الطريق ..
كان الأمر مدهشا عندما فوجئ الأهل صباحا باختفاء زورق سيدة اللؤلؤ المحاط بالأسوار ..
كل الظن ذهب أن الفتاة أخذته وهربت هي وحبيبها الساحر ، ولكن كيف يمضي زورق كهذا في هذا البحر ، البعض أقسم إنه شاهد الفتاة في طرح البحر ، ولكن على الدفة كانت سيدة أخرى تقوده.. سيدة يلمع جسدها تحت آلاف اللآلئ ..
ولكن المدهش توقف هدايا سيدة البحر لأي عروس بعد هذا اليوم ،واختفائها نهائيا ..
وغادر السيرك الحي دون ساحره في تساؤل غريب عن مكانه ، وظل محفورا في داخلي تفاصيل ذلك اليوم باختفاء الفتاة ،وسيدة اللؤلؤ ، ورماح وطوقه العجيب ، وذلك القرش الفضي الذي احتفظ به للزمن ، كشاهد على يوم في حياتي تاهت فيه الأسرار ..

صانع التماثيل..  

Posted by: محمد إبراهيم محروس



لم يأخذني الخوف عندما اقتحم عليّ خلوتي ، كنت التمس الدفء لدى صفحات كتاب قديم أصفرت أوراقه بفعل الزمن ، رأيت في ملامحه الترقب والخوف ، ظهر مليًّا أنه يحمل لي خبرًا عجيبًا ، وتخاف شفتاه أن تنطقا به ، التمس الهدوء في عينيّ ، وقال بعد مدة : - سيدي لم أر بدا من أخبارك بالأمر.. لقد أتى من انتظرته أنت طوال عمرك ، وقلت عنه في أسفارك وكتبك السبع ، لقد ظهر صانع التماثيل في الحي ..

توقفت الكلمات التي أردت لفظها بين شفتي، بعد وهلة استطعت أن أهمس برفق:

- هل أتى فعلا ؟!.

عندما هزّ رأسه ومال جانبا ؛ ليجلس متكئا على أحدى الطنافس ؛ عرفت أن الخبر خارج حدود الحي بمراحل، وأنه حقيقي برغم أنني طوال عمري أحسب مقدمه وأستعد له ، ولكنني شعرت بالخوف .. الترقب والانتظار مهما كان طبيعتهما أقل تأثيرًا من المواجهة الفعلية معه.. هممت بالقول ، وهدأت قليلا .. أنفاسي المبهور وحدقتا عيني اللتان ظلتا محدقتان في الفراغ لمدة، أصابته بالرعب.. تلميذي النجيب الذي ظل لسنوات يخدم تحت يدي، ويحفظ كتاباتي وأشعاري، ويرددها للناس، تلميذي الذي كان يرد المريدين على بيتي ليل نهار، كان خائفًا مرعوبًا.. فما بالي وأنا الحبيس منذ عشرات السنين خلف الأبواب أبغي الانتظار حلا ..

- ماذا يفعل؟ ..

هكذا خرجت الكلمة مختصرة ومجهولة ..

قال: يفعل ما شاهدته أنت في أحلامك وكتبته في أحاديثك مرارًا.. يصنع التماثيل للناس .. قدم أمس ويعكف حاليا في صنع أول تمثال له..

- من أختاره للتمثال الأول ..

قال : اختار فتاتي العذراء، التي اختارها قلبي..

- وكيف عرف ؟!

- شاهدت يديه وهي تمسكان بمادته الخام ويبدأ في صنع الجسد..وهي تقف أمامه لا تتحرك..

كلامه كان كافيا لكي أخرج ولأبحث بنفسي عن السر ّ، السرّ الذي حلمت به لسنوات وسجلته يدي في مئات الصفحات ولكن لا أحد يقرأ، ولا أحد يسمع..

كان خروجي أشبه بالخروج الأول.. منذ سنوات عديدة اعتكفت داخل بيتي أقفل على نفسي أبوابًا خلف أبواب.. أتنفس الصمت ..

قالوا شيخ طريقة، قالوا عالما جليلا، قالوا مشعوذا، قالوا أوصافا كثيرة لا تعد.

سحبني ضوء النهار خلفه عندما فتحت الباب الأخير المطل على الحي، رفعت عينيّ لأعلى، رأيت قرص الشمس يخترق المسافات؛ ليرتمي في عينيّ، أبعدت وجهي عن السماء، وتحركت وأنا أغمض عينيّ متصورًا النجاة، ولكن هيهات..

كانت بعض دور ما زالت على شاكلتها القديمة.. تقف ما بين انتصاب وتخاذل وكأنها على استعداد تام أن تنهار لرؤيتي ، بيوت عرفتها وعرفت أهلها منذ سنوات بعيدة ، عشرات وعشرات ، تأملت ملامح الأطفال العابثين في الطرقات أحسست بالغربة ، أحسست أن غيبتي منعتني عنهم كثيرًا ، بعضهم يشق مراحل الرجولة الآن والبعض يأخذ طريقه إلى الفحولة على استحياء ، بنات تجلس أمام الدور المبنية بالطوب اللبني ، ينظرن إلي وأنا أتحرك واضعا يدي فوق عيني كستار حاجب ضد الشمس ، أرى ملامح الفضول في أعينهن ، تلمس إحداهن جارتها وهي تشير إليّ .. أشق طريقي .

، الكل يحدق في متأملين شيخًا كبيرًا مخرفًا كما أعتقد البعض قبل الظهور الغريب لصانع التماثيل..

تهمس إحداهن لجارتها وهي تداري فخذها الظاهر بطرف جلبابها، وترمي من يديها ذكر البط، الذي لا يصدق نجاته من بين أيديها، بينما تهمس أخرى: العجوز خرج.. تميل جارتها إلى أذنيها، تضع جملة ما في الأذن؛ فيتسع فم الفتاة وتنطلق ضحكة مجلجلة.. أهرب من العيون، أحاول أن أتحرر من نفسي تحت جلبابي تقبع آخر كلمات كتبته قبل الخروج، أتلمسها بيدي التي تصطدم بساعة قديمة، أخرجها أنظر فيها محدقا متمنيا أن تكون مضبوطة.. للأسف أرى الحقيقة.. لقد توقفت الساعة! أدرك جيدا ما حدث.. يصدقني شعوري أنه وصل بالفعل وأنه ما انتظرته طوال حياتي.. صانع التماثيل بهيئته وشكله وحياته الماضية يضرب مخيلتي.. أطمئن أنني أمشي ما زلت على قدمين .. أبحث عن نفسي بين قدمي السارتين ..أرى الوجل في العيون المترقبة .. يتوقف الأطفال عن اللعب ، تتوقف النساء عن الهمس .. ترمي إحداهن ماء استحمامها أمام قدمي العاريتين ، وتهنئ نفسها أنها قريبا ربما يحدث لها ما لم يحدث منذ سنوات بمروري على ماء استحمامها؛ قد يجلب لها حلمها بالحمل .. انتشر في الفضاء صوت غريب ، بدأ يتردد بين البيوت سريعًا ،ساحبًا خفاشا من الكلمات المحبوسة منذ سنوات في الحلوق ..

يقترب البعض يهمس، ويبتعد، خطواتي تستمر، تلميذي تركته في البيت خائفا؛ لقد زرعت في قلبه الخوف من صانع التماثيل منذ سنوات عديدة.. خوف غريب كنت أدركه وأعرفه..

الكل بدأ يتململ لفترة .. ثم شاعت الحكاية بخروجي .. مئات الأرجل تتبعني، تنتظر إلى أين أمضي..

خلف البيوت وفي منطقة شاسعة رأيته واقفًا، مادته الأولى بين يديه، يسخنها ويبردها في ماء ساخن وبارد وضعه في صفيحتين متسعتين.. والفتاة تقف أمامه جزلة، يتأملني سكان البلد وأنا أقترب من صانع التماثيل، البعض يقف مبتسمًا، وهو يرى ما يفعله الرجل، بدأ التمثال تتضح معالمه بشدة.. وتظهر للعيون أنه بالفعل ماهر وحاذق في عمله هذا الصانع؛ فالتمثال بدأت تتضح صورته.. أنه طبق الأصل من الفتاة ،بل مستحيل تخيل أنه تمثال فقط، حاولت الاقتراب.. لم أستطع بعد مدة أن أقترب أكثر من هذا..كأن حاجزا غير مرئي فصلني عن الرجل.. أمتار تسمح بالرؤية ولا تسمح بالتحرك، قدمي لا تتحركان وأنا أتابع مثل الجميع إتمامه لعمله..

نقف على الحافة بين الترقب والقدوم ، أحاول التحرك وعندما أدرك الجميع أن التحرك ليس في استطاعتي ..وقفوا مثلي متسمرين ، خائفين من التقدم .. جل الأمر عندما بدأ الليل يقبل مشمرا عن سواده وظلامه .. نظرات العيون تلمع، أمامنا أظلم المكان، بينما ظل حول الصانع ضوءا لا تعرف من أين أتى به والفتاة تقف أمامه.. ويده مستمرة في عملها دون خوف أو قلق.. حاولت أن أخرج من بين ملابسي أوراقا أقرأها ولكنني رحت أتمتم ببعض الأدعية، متمنيا أن أتحرك.. بداخلي وهم كبير يرجوني أن أكف، أن أهاجم.. ولكن عينيّ تسمرتا على وجه الصانع ، والفتاة التي راحت أمامنا تفعل ما جعلنا نصمت في ذهول وهي تخلع ملابسها قطعة بقطعة ، لتقف بعد ثوان عارية أمامنا ، بينما الصانع يحفر تفاصيل جسدها لتمثالها بمنتهي السرعة ،والهدوء ، والليل سادر ، البعض أغمض عينيه ، والبعض زاد تحديقه ، ولكن الدهشة شملتنا كلنا .. أعرف ولا أعرف .. أقدر ولا أقدر.. أحاول التحرر والتحرك لمنعه ، لا أستطيع .. يواصل عمله وضوؤه يلمع في الخلاء.ساعات، وساعات.. بدأ ضوءه يزداد يغشي العيون، لم نستطيع النظر ، عرفت أنه أكتسب بعزلتي طوال السنين قوة لا قبل لي بها ..

أقبل النهار كطفل ضل طريقه إلى الدنيا .. فتحنا أعيننا بصعوبة .. شعرت بيد تربتي على كتفي ، لمحت تلميذي يشير إلي وإلى وقفتي وحيدا ، وقد تفرق الناس من حولي ، وعادوا لبيوتهم ..

أحدق في تلك المنطقة التي كان يصنع بها الرجل تمثاله، لا أثر له ولا لتمثاله بينما البنت عارية تقف..

أقترب وأنا أخلع جلبابي لأداري عريها.. أقترب أكثر وأكثر ، وخلفي تلميذي يحاول أن يلحقني في هرولتي ..

بعد وهلة أقف أمامها وقد تحجرت الدموع في عينيّ، اسمع صرخة من تلميذي الذي لحقني، وراح يخبط على جسد الفتاة الذي أعطى رنينا مجوفا، وتمتم في همس: لقد أنهى صانع التماثيل عمله..

ثم سقط.

لسنوات الآن وعلى أطراف الحي..يتساءل الأبناء الجدد عن العجوز الذي لا يريد الخروج للدنيا مرة أخرى ويعكف في بيته بعد خروجه الأول.. وعن تمثال عار لفتاة يحتل الميدان الرئيسي للبلد ويتساءلون من صانعه .. وعن مجذوب يغطي التمثال ليلا بملابسه وهو يبكي في حرقة ولوعة حبيب..

ولا تأتي الإجابة سوى أن صانع تماثيل قديم زار البلد يوما ما.. وترك تمثالها خلفه وعشقه المجذوب ..